على عمق أكثر من 22 متراً تحت حركة المرور والصخب في منطقة بيكاديللي المزدحمة بلندن، توجد ممرات صامتة وغرف شديدة السواد، نادراً ما تُرى أو تحظى بزوار، لكنها أسهمت بدور حيوي في تحديد مسار تاريخ القرن العشرين وقلب مجريات التاريخ.
بعدما بقيت مهجورة لعقود في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فتحت بريطانيا باب محطة مترو أنفاق داون ستريت المهجورة، حيث نُسِّقَت حملات مثل إنزال النورماندي وعملية انسحاب دونكيرك.
في حين أن المحطة لم يتم استخدامها في الإنتاج التلفزيوني أو السينمائي؛ لأن المدخل الضيق يجعل من الصعب جداً إدخال معدات الكاميرا، فقد تمت الإشارة إليها في روايتين لأجاثا كريستي- وهما الرجل ذو البدلة البنية في عام 1924 وThe Mystery of the القطار الأزرق في عام 1928. وقد ذكرها أيضاً المؤلف نيل جارمان في رواية "نيفر وير" في عام 1996.
رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل قد اختبأ شخصياً في ذلك الخندق، في نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول 1940، في ذروة حملة القصف الألمانية على لندن المعروفة باسم The Blitz، وعمل فريق من 40 موظفاً في ذلك المكان ليلاً ونهاراً على المجهودات الحربية.
وفي حين أنَّ غرف حرب تشرشل الأكثر شهرة، والتي كانت مركز قيادة حكومياً بريطانياً طوال الحرب، مفتوحة للجمهور باعتبارها جزءاً من متحف الحرب الإمبراطوري، فإنَّ الجولات في داون ستريت هي تجربة من نوع آخر.
محطة داون المهجورة
افتُتِحت محطة داون ستريت في عام 1907 وخدمت خط بيكاديللي، لكن بحلول عام 1932 أُغلِقت. وقعت المحطة في قلب منطقة الأثرياء، مايفير، حيث فضلوا استخدام وسائل النقل الخاصة بهم.
كما أنها على بعد مسافة قصيرة سيراً على الأقدام من محطات مترو أنفاق هايد بارك كورنر وغرين بارك، حيث تم تجهيزهما بسلالم كهربائية، لذا لم تكن مستغلة بشكل كافٍ، حسب موقع My London.
بالإضافة إلى ذلك كانت عميقة جداً تحت الأرض، وبها ممرات طويلة تأخذها أسفل طريق بيكاديللي المزدحم.
ومع ذلك، بعد 7 سنوات من الإهمال، توضح المؤرخة والمرشدة السياحية سيدي هولواي لشبكة CNN: "كل الأشياء التي جعلتها غير قابلة للاستخدام محطةً جعلتها مثالية تماماً للمخابئ السرية خلال الحرب العالمية الثانية".
عند إعلان الحرب في عام 1939، تحولت محطة داون ستريت في غضون أيام إلى المقر الجديد للجنة التنفيذية للسكك الحديدية. وعملت هذه اللجنة وسيطاً بين مكتب الحرب وشركات السكك الحديدية البريطانية، وكان لها دور حاسم في حركة القوات والخيول والمعدات في القتال فيما بعد.
مكاتب تحت الأرض
بالانتقال إلى منصات المحطة اليوم، لا يزال يتضح أنها محطة لمترو الأنفاق لا مثيل لها. إذ تشير اللافتات القديمة إلى الطريق إلى "المكاتب" و"غرفة اللجنة"، ولا تزال علامات أقلام المخططين مرئية في بعض المناطق.
تتدلى ألواح جصية بلون الخردل من البلاط – وهي بقايا محاولة لخلق بيئة شبيهة بالمكتب- بينما سُوِّيَت الأرضية لإنشاء قسم الكتابة، حيث كان يجلس ما يصل إلى 8 سكرتيرات يطرقون على مفاتيح الآلات الكاتبة.
كان الموظفون يعيشون ويعملون هنا في نوبات تصل إلى 12 ساعة، غالباً طوال الليل، ولا يصعدون إلى السطح إلا لاستنشاق الهواء كل 10 إلى 14 يوماً، بهدف عدم لفت الانتباه إلى الأشخاص الذين يدخلون ويخرجون باستمرار من المدخل على مستوى الشارع، حسب صحيفة Daily Mail.
لم يتبقَّ من مرافق المياه سوى مراحيض وأماكن استحمام متسخة، بينما يغطي السخام ورق الحائط المزخرف في أماكن نوم القيادات التنفيذية.
لكن الحياة هنا كانت مترفة إلى حد ما. تقول سيدي: "لم تكن المخابئ والملاجئ مشمولة في حصص الإعاشة خلال الحرب". فكانت نوعية الطعام هنا أعلى بكثير من نوعية الطعام الذي كان يتناوله المدنيون فوق الأرض. وكانت اللجنة التنفيذية للسكك الحديدية هي الشركة نفسها المسؤولة عن العديد من الفنادق الكبرى القريبة من السكك الحديدية في بريطانيا، فكان الموظفون هنا يتناولون الطعام بأدوات مائدة كريستالية ويغسلون أيديهم في أحواض رويال دولتون.
ضمت المحطة أيضاً مطبخاً مجهزاً بالكامل وغرفتي طعام، وطاقم خدمة أيضاً، وكان يجري إعداد وتناول 27 ألف وجبة هنا كل عام.
البراندي والسيجار
كانت "غرف الحرب"، على بعد 1.6 كم أو نحو ذلك من داون ستريت، على الجانب المقابل لقصر باكنغهام، تحت الأرض لكنها لم تكن محصنة من القنابل. تقول سيدي: "إذا تلقت ضربة مباشرة، فستقضي على جميع من فيها. وبحلول نوفمبر/تشرين الثاني عام 1940، بدأ الناس يخافون على حياة ونستون تشرشل".
تقول سيدي إن رئيس محطة داون ستريت وشقيق عضو برلماني بريطاني رالف ويدغوود، نجح في إقناع تشرشل بالحضور إلى داون ستريت "لأنها قريبة جداً من مقر السلطة، ومريحة جداً، وتتمتع بدرجة عالية من الخصوصية ومجهزة بالبراندي والسيجار وأشياء من هذا القبيل".
وأمضى تشرشل 5 ليالٍ على الأقل هنا في شتاء عام 1940، ثم أُخفي حضوره مرة أخرى عن معظم موظفي داون ستريت بعد نقله إلى المستوى الأرضي.
ورغم أنه كان ينام على سرير متواضع قابل للطي، في غرفة الطعام التنفيذية، فقد كان يحيا حياة لا بأس بها. يشير الموظف المدني جون كولفيل في مذكراته إلى أنهم كانوا يتناولون الكافيار، ومشروبات كحولية فاخرة كالشمبانيا والبراندي المعتق.
بقيت محطة داون ستريت المقر الرئيسي لمركز العمليات لمدة عامين بعد انتهاء الحرب، حيث أدارت حركة القوات والمعدات، إلى أن تم حلها في ديسمبر/كانون 1947 عندما تم تأميم السكك الحديدية.
محطات لندن المهجورة
جولات "لندن الخفية" الأخرى التي ستنطلق من جديد للمرة الأولى منذ مارس/آذار عام 2020 ستشمل المحطات والأنفاق المهجورة في يوستن ومورغيت وأُلدويتش، وكلها لها طابعها وتاريخها الفريد.
تعد جولات داون ستريت هي الأعلى سعراً مقارنة بالمحطات الأخرى التاريخية، حيث تكلف 85 جنيهاً إسترلينياً للبالغين و80 جنيهاً إسترلينياً (112 دولاراً و106 دولارات) لبعض الفئات، فيما تكلف جولات المحطات الأخرى 41.50 جنيه إسترليني (54.8 دولار) و36.50 جنيه إسترليني (48 دولاراً) لبعض الفئات.
وتبدأ جولات داون ستريت ويوستن في تواريخ محددة بين 15 يناير/كانون الثاني و13 فبراير/شباط عام 2022، بينما تنطلق جولات محطتي مورغيت وأُلدويتش، حيث تم تصوير مسلسل Sherlock، في تواريخ محددة بين 2 و27 مارس/آذار عام 2022.
تنزل إليها عبر سلم حلزوني طوله حوالي 22 متراً تحت مستوى سطح الأرض، مع إضاءة خافتة، وبالتالي يحتاج الزائر إلى شعلة أو مصباح للتنقل في طريقه عبر متاهة من الأنفاق والسلالم غير المستخدمة وأعمدة الرفع حول الغرف المهجورة.
وقالت هولواي، التي قدمت المسلسل الوثائقي: "أسرار مترو أنفاق لندن" على قناة UKTV البريطانية: "كانت الممرات الطويلة هي مشكلة المحطة عندما تم فتحها لاستخدام الركاب؛ لأن الناس لن يزعجوا أنفسهم باستخدامها.. لكن في الواقع، تبين أن مشكلتها كمحطة انقلبت نعمة كمخبأ حكومي سري خلال الحرب العالمية الثانية".