قبل نحو 168 عاماً من الآن، اندلعت "حرب القرم"، وهي واحدة من أشهر الحروب والمواجهات بين الدولة العثمانية والإمبراطورية الروسية، ضمن سلسلة حروب تاريخية بين الدولتين، كانت هذه الحرب تحديداً تشكل علامة فارقة في تاريخ الحروب الروسية العثمانية، خصوصاً أنها شهدت تحالفاً معقداً بين بريطانيا وفرنسا والسلطان العثماني، أيضاً شارك جنود مصريون في حرب القرم مع الدولة العثمانية لمحاربة روسيا.
ضمن الحروب الروسية العثمانية.. لماذا قامت حرب القرم؟
دخل الإسلام القرم على يد الخان المغولي بركة خان وأصبح سكانها يسمون "تتار القرم"، وتأسست مملكة "القبيلة الذهبية" بالعام 1242، لكن بعد تفكك المملكة تقسمت إلى خانيّات، كان من بينها "خانيّة القرم" التي أصبحت بعد أكثر من قرنين (العام 1474) تابعة للدولة العثمانية، كما أوضح الرمزي في كتابه "تلفيق الأخبار وتلقيح الآثار في وقائع قزان وبلغار وملوك التتار".
لكن بعد قرابة 3 قرون (في العام 1771)، استولت روسيا على شبه الجزيرة وضمّتها تحت حكمها فترة اندلاع الحرب بين العثمانيين والروس (بين عامي 1768 – 1774)، وقد انتهت هذه الحرب بتوقيع معاهدة "كوتشوك كينارجا"، التي اعتبرت من أهم المنعطفات في التاريخ العثماني، كونها شكلت بداية التدخّل الأوروبي في شؤون الدولة العثمانية.
مثلت هذه الاتفاقية أيضاً نهاية حرب اضطر فيها العثمانيون للمرة الأولى في تاريخهم للتنازل عن أرضٍ يقطنها مسلمون، وقد أثارت الكثير من النقاشات من الحكام العثمانيين وعلماء الدين حول ولاء مسلمي القرم.
وقد وافق الروس بأن يكون ولاء مسلمي القرم – الذين أصبحوا رعاياها – الديني للسلطان العثماني "الخليفة"، وفي المقابل، وافق العثمانيون على منح الروس دوراً في كنيسة القدس، وسمحت لهم بالمرور التجاري الحر عبر مضيقي البوسفور والدردنيل، وفقاً لكتاب "المسلمون في الإمبراطورية الروسية" لمحمود شاكر.
ورغم الاتفاقية، لكنّ الروس استمرُّوا في محاولاتهم لإضعاف الدولة العثمانية، من خلال شن الحروب وإثارة الفتن والثورات داخل القرم وداخل الدولة العثمانية نفسها، وذلك لتحقيق مكاسب على الأرض بزيادة رقعة أراضيها بأراضٍ عثمانية، أو بهدف إضعاف النفوذ العثماني في أوروبا، وقد أدت هذه التوترات والاستفزازات لاندلاع حرب القرم في العام 1853.
"نزاع الرهبان" وحرب القرم
كان السبب الحقيقي لهذه الحرب هو مطامع القيصر الروسي نيقولا الأول الموجهة نحو الأستانة (إسطنبول)، لذلك تذرّع القيصر بشجارٍ بين الرهبان الكاثوليك التابعين لفرنسا والأرثوذكس التابعين روحياً لروسيا على الامتيازات الدينية في القدس التابعة للدولة العثمانية.
ثم أرسل القيصر مبعوثه إلى السلطان العثماني عبد المجيد الأول، وطلب منه أن يعرِّف بالقيصر باعتباره حامي المسيحيين الأرثوذكس في جميع أنحاء الدولة العثمانية، وبعد أن رفض السلطان العثماني طلب الروس، أمر القيصر الروسي، الذي أطلق لقب "الرجل المريض" على الدولة العثمانية، جيشه المكون من 35 ألف جندي بالزحف والهجوم على إمارتي مولدافيا وفالاخيا "فالاتشيا" (رومانيا حالياً) لتقصف المراكز العثمانية في البحر الأسود، كما أشار موقع History.
اندلعت الحرب في 5 أكتوبر/تشرين الأول من العام 1853، ثم حشدت الدولة العثمانية وروسيا قوات ضخمة على جبهات القتال، وعلى جبهتي الدانوب والقوقاز، واستطاع القائد العثماني عمر باشا أن يلحق هزيمة كبيرة بالروس على نهر الدانوب، وأن يدخل رومانيا، وفي جبهة القوقاز ساند الزعيم الشيشاني الإمام شامل الداغستاني القوات العثمانية أثناء القتال ضد الروس.
دخول بريطانيا وفرنسا إلى جانب العثمانيين
أرادت الدولة العثمانية دفع بريطانيا وفرنسا إلى دخول الحرب إلى جوارها، لذا قامت بخدعة حربية لكسب دعمهم، إذ أرسلت مجموعة من قطع الأسطول البحري العثماني القديمة إلى ميناء سينوب على البحر الأسود، وهي تدرك أن الروس سيهاجمونها، وبالفعل أغرق الروس جميع السفن، ما أثار أزمة دبلوماسية في الأوساط بين بريطانيا وفرنسا من ناحية، وروسيا من ناحية أخرى.
عرض الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث الوساطة لإنهاء القتال بين العثمانيين وروسيا، إلا أن الإمبراطور الروسي رفض ذلك، فبادر نابليون الثالث بالاتفاق مع بريطانيا ضد روسيا، وقبلت بريطانيا عرض عدوتها التاريخية، نظراً للمصالح المشتركة، وانضمت لهما لاحقاً مملكة سردينيا، التي أصبحت إيطاليا فيما بعد.
أما عند السبب الحقيقي لدخول هذه الدول الحرب في 27 مارس/آذار عام 1854 فكان استراتيجياً، وهو باختصار أن لا يتفوق الروس في الشرق الأوسط وشرق البحر الأبيض المتوسط على حساب تراجع الدولة العثمانية، رغم أنهم كانوا يريدونها ضعيفة أيضاً، لأنه يؤثر على مصالحهم الاقتصادية ومخططاتهم الاستعمارية، وفقاً لما ذكره الكاتب العراقي حسن عبد علي الطائي في دراسته "روسيا وحرب القرم 1853-1856".
جنود مصريون في حرب القرم
أرسل السلطان عبد المجيد إلى خديوي مصر عباس باشا الأول وطلب منه أن يرسل نجدة من الجنود المصريين، فامتثل الوالي. كانت مصر في ذلك الوقت تحظى باستقلال، لكنّها تتبع اسمياً للدولة العثمانية.
أمر خديوي مصر بتعبئة أسطول مكوَّن من 12 سفينة مزودة بـ 642 مدفعاً و6850 جندياً بحرياً بقيادة أمير البحر المصري حسن باشا الإسكندراني، وتعبئة جيش بري بقيادة الفريق سليم فتحي باشا، بمجموع 19722 جندياً، وبعدها بحوالي 5 أشهر أرسل 20 ألفاً آخرين، فضلاً عن الدعم المادي والتبرعات التي قدمتها مصر، كما ذكر عالم الآثار الأمير عمر طوسون في كتابه "الجيش المصري في الحرب الروسية المعروفة بحرب القرم".
أدى الجيش المصري بشكل جيد في معارك عديدة، أولاها عندما حوصر بين مدينتي سلسترا في بلغاريا وبابا داغ الواقعتين على نهر الدانوب، من قبل الروس، حيث انتصر الجيشان المصري والعثماني سوياً على الجيش الروسي في أواخر أكتوبر/تشرين الأول من العام 1853.
ثم في 4 نوفمبر/تشرين الثاني، دارت معركة عنيفة بين الجيش المصري والجيش الروسي في أولتنيتزا، حيث أبدى الجنود المصريون فيها بسالة نادرة وشجاعة فائقة، وفقاً لما ذكره الأمير طوسون.
وفي 12 يناير/كانون الثاني من العام 1854 اشترك عدد من جنود هذا القسم أيضاً في مقاتلة الجنود الروسية المرابطين على الأرصفة التي أمام مدينة سلستره، وحاربوهم بشجاعة وبسالة حتى أجبروهم على الفرار إلى داخل البلاد.
ثم كلّف 800 جندي مصري بالدفاع عن مدينة طرابزون الواقعة على البحر الأسود من اعتداء الروس، كما أرسلت فرقة مصرية أخرى في شهر مارس/آذار من نفس السنة إلى مدينة رازجراد في بلغاريا لدرء تهديدات الروس.
وكانت أعنف المعارك التي رصدها طوسون هى المعركة التي خاضتها الفرقة الأولى المصرية بقيادة إسماعيل باشا حقي للقوات الروسية في الدفاع عن مدينة سيليسترا في مايو/أيار 1854، موقِعة أكثر من 2000 قتيل في صفوف القوات الروسية، فيما سقط 400 مصري.
وفي 14 يوليو/تموز توفي الخديوي عباس باشا، وتولى سعيد باشا حكم مصر وأمر بإرسال 10 آلاف جندي مصري إضافي.
بدأ حصار مدينة "سباستبول" في 20 سبتمبر/أيلول 1854 واستمر الحصار لعام، ثم حدث الاستيلاء عليها في 8 سبتمبر/أيلول من العام 1855، حيث هُزم الجيش الروسي بقيادة الجنرال منتشيكوف من قبل جنود الحلفاء فرنسا وبريطانيا ومصر، وذلك في معركة نهير "ألما" في القرم.
بعد هذا النصر وفي طريق عودة الأسطول المصري من القرم إلى إسطنبول (في أكتوبر/تشرين الأول)، حدثت كارثة بحرية أطلق عليها طوسون "نكبة العمارة المصري"، حيث أُغرقت بارجتان مصريتان في البحر الأسود وفقدت البحرية المصرية 1920 بحاراً، لينجو 130 رجلاً فقط من البارجتين.
"وقد وقعت حوادث أخرى مريعة غرق فيها كثير من السفن، ولكن لم يكن ما هو أفظع من حادثة البارجتين المصريتين العائدتين من القرم"، كان هذا عنوان صحيفة "ذي اللستريتد لندن نيوز" البريطانية، في العدد الصادر في 2 ديسمبر/كانون الأول من العام 1854.
ثم في 17 فبراير/شباط من العام 1855 شن الروس هجوماً شرساً على الجنود المتمركزين في "كوزلوه" في القرم، ولم تكن حصون المصريين والفرنسيين جاهزة آنذاك ليسقط منهم عدد كبير من القتلى والجرحى، قبل أن يُهزم الروس.
نهاية حرب القرم
بعد أن وضعت الحرب التي أودت بحياة ما يقدر بنحو 650 ألف شخص أوزارها، أرسل السلطان العثماني فرماناً إلى والي مصر يشكره على ما قدمه للدولة من مساعدة في هذه الحرب، ويثني على بسالة الجنود المصريين فيها، ويعلمه بعقد الصلح بينه وبين روسيا.
إذ انتهت حرب القرم في 30 مارس/آذار 1856 بتوقيع "اتفاقية باريس" وهزيمة الروس فعلياً، إذ اعترفت المعاهدة بالاستقلال الذاتي لكلٍّ من ولايتي "الأفلاق" و"البغدان" (رومانيا حالياً) ضمن إطار حكم الدولة العثمانية، وكذلك التأكيد على استقلالية قرار الدولة العثمانية وعدم التدخل في شؤونها الداخلية مقابل تعهدها بتحسين أحوال الرعايا المسيحيين في البلقان.
فيما اعترف السلطان العثماني بالمساواة التامة بين جميع رعاياه على اختلاف مذاهبهم وأديانهم، وأعلنت الدولة العثمانية قبول مبدأ التحكيم في حالة وقوع خلاف بينها وبين غيرها من الدول، وكان هذا النص مهماً في القانون الدولي الناشئ آنذاك.
أيضاً قررت المعاهدة إعادة ميناء "سيفاستوبول" لروسيا، كما احتفظ العثمانيون بحقّ حماية الأراضي الصربية، ووعدت الدول الكبرى بالعمل على حل أي خلاف ينشأ بين الصرب والعثمانيين، فيما ثبتت امتيازات فرنسا في الأماكن المقدسة المسيحية دون غيرها من الدول، وأضفت عليها الطابع الحقوقي الدولي، حيث إن الامتيازات في السابق كانت نابعة من التعاقد الثنائي بين الدولة العثمانية ذات السيادة على هذه الأماكن وبين فرنسا منفردة.
لم تكن مصر فقط.. تونس شاركت أيضاً
بالمناسبة، لم تكن مصر وحدها هي من أرسل جنودها لهذه الحرب، إذ أرسل السلطان العثماني عبد المجيد الأول أيضاً إلى "باي" تونس رسالة بالعام 1853، يطلب منه إرسال جيش لمساعدة الجيش العثماني، وعلى الفور استجاب الباي وأرسل جيشاً قوامه حوالي 14 ألف جندي بقيادة الجنرال رشيد، للمشاركة في حرب القرم.
أيضاً قتل أكثر الجنود التوانسة في الحرب وبقي منهم عدد قليل، وبقيوا في إسطنبول وما حولها حيث اندمجوا مع السكان هناك، حتى إن الروايات التاريخية تقول إنهم أعطوا مدينة تحمل اسمهم إلى اليوم، وتعرف بـ"تونسلر كويو" (قرية التونسيين) في مدينة "قسطامنو".