شخصية "إسماعيل باشا صديق"، المعروف باسم "إسماعيل المفتّش" شخصية محورية في فترة حكم الخديوي إسماعيل لمصر في ستينيات وسبعينيات القرن الـ19، ويتذكرها غالباً الجيل الذي شاهد مسلسل "بوابة الحلواني" الشهير فترة التسعينات.
كان إسماعيل المفتش واحداً من أشهر وزراء مصر في التاريخ الحديث، وواحداً من أكثر نخبها السياسية إثارة للجدل على الإطلاق، سواء في حياته أو طريقة موته، كما اختلفت الآراء حول توصيف قراراته بين من اعتبره انتهج سياسة ظالمة، وبين من رآه شديد الإسراف والبذخ والمتسبب الأول في الأزمة الاقتصادية التي ضربت البلاد وقتها، فيما يرى آخرون أنه قاد نهضة معمارية وثقافية وفكرية كبيرة.
من هو إسماعيل المفتش؟
اختلاف حول أصل إسماعيل المفتش
اختلفت الروايات حول مولد المفتش، فهناك روايات تقول إنه ولد في الجزائر، وانتقل إلى القاهرة في صغره، وروايات أخرى تقول إن أصل العائلة ينتهي إلى مراكش في المغرب، وإنه ينتمي إلى عائلة فقيرة كانت من الخدم، لكن أياً من الروايات ليست أكيدة بدليلٍ قاطع.
حفيدة المفتش الكاتبة مروة عباس، تؤكد أنه ولد في مصر وتحديداً في عزبة "أبيه" بمحافظة أسيوط (صعيد مصر)، حوالي العام 1830، ثم انتقل للعيش في القاهرة، نظراً لظروف عمل والديه.
أما عن نسبه فقالت إن والده هو دونالي مصطفى وهو أغا باشا ألباني-تركي، وهو من رجال إبراهيم باشا، ابن محمد علي باشا، أما والدته فكانت كبيرة وصيفات القصر، وصديقة شخصية لخوشيار هانم، والدة الخديوي إسماعيل، وكانت تتقن عدة لغات، وهي أيضاً من أرضعت الخديوي إسماعيل.
شقيق الخديوي بالرضاعة!
منذ طفولته، ارتبط المفتش بالخديوي إسماعيل، فهما أخوان في الرضاعة وأصدقاء مقربين، كما أدار له مزارعه لاحقاً، قبل أن يعينه الخديوي وزيراً للمالية بالعام 1868، كما ذكر كتاب "قصة الإقتصاد المصري: من عهد محمد علي إلى عهد مبارك" للكاتب الاقتصادي المصري جلال أمين.
مع تعيينه في هذا المنصب أصبح المفتش يتمتع بقوة وهيبة حقيقية داخل البلاد، قادر على إقصاء المنافسين، خصوصاً مع تمتعه بثقة الخديوي وصداقته الحميمة، لدرجة أن البعض يعتبر أنّه تمتع بصلاحيات أكبر بكثير من صلاحياته.
في كتاب "تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا"، يقول المؤرخ الفلسطيني (من أصول عثمانية) إلياس الأيوبي، إن إسماعيل المفتش كان يقال له "الخديوي الصغير"، كما كان في الحقيقة الصدر الأعظم المصري، وكان وحده دون زملائه كلهم، يعمل باستقلالٍ تامٍّ في الرأي والتنفيذ دون مشاورة مليكه، الواثق به كل الوثوق.
رغم أن إدارة الأقاليم كانت من شؤون وزير الداخلية، الذي كان في مدة كبيرة من عهد الخديوي إسماعيل، ابنه وولي العهد نفسه، الأمير محمد توفيق باشا، إلا أن إسماعيل المفتش كان يعين المديرين والوكلاء والمحافظين وأغلب المناصب الهامة.
الأيوبي في كتابه قال إن المفتش كان يحصل على أموال طائلة من موظفيه الذين "يعصرونه من جسم الفلاح" لينالوا حمايته ورضاه عنهم.
أمّا المؤرخ المصري جمال بدوي فيرى في كتابه "كان وأخواتها مشاهد حية من تاريخ مصر الحديث"، أن اختيار الخديوي لأخيه إسماعيل المفتش لمنصب وزير المالية لم يكن إرضاء لعاطفة الأخوة، وإنما كان محسوباً بالمنفعة "بين رجلين معدومي الضمير".
لكن من زاوية مختلفة تماماً يراها وزير الثقافة المصري السابق حلمي النمنم، فإن المفتش قد جرى إنكار اسمه ومعروفه مثل تنظيم الأمور الخاصة بعمليات السخرة، وتوطين العربان والقضاء على تمرداتهم وتمصير الدواوين وتوفير الأمن والأمان النسبي في البلاد.
هذا الإنكار حدث عقب انقلاب صديقه الخديوي عليه، بعد أن كان هو الرجل الثاني في الدولة، بل وأحياناً الرجل الأول، لدرجة أن أمراء الأسرة العلوية كانوا يغارون منه ويحقدون عليه وأيضاً يسعون للتقرب إليه، وبحسب مقال كتبه النمنم فإن علاقة المفتش بالخديو أشبه بعلاقة عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، بعد ثورة يوليو/تموز العام 1952 في مصر، وكذلك علاقة هارون الرشيد وجعفر البرمكي.
أزمة اقتصادية كبيرة تخيِّم على مصر
كانت مصر تمر بأزمة مالية كبيرة فترة تولِّي الخديوي إسماعيل مقاليد حكمها، إذ عندما تُوفِّي الخديوي سعيد كان قد ترك مصر غارقة في ديون طويلة الأجل، فضلاً عن شروط بالغة القسوة على شركة قناة السويس، مثل توفير عمال السخرة في حفر القناة، والتنازل لشركة القناة عن الأراضي لقناة المياه العذبة.
الخديوي إسماعيل زاد من ديون مصر أضعافاً، نتيجة افتتاح المشاريع الجديدة لخدمة البلد والتحديث في مختلف المجالات، وحبه لحياة الترف والإنفاق على الحفلات الباذخة من ناحية أخرى، أبرزها حفل افتتاح قناة السويس، ثم بدأت مشاكل تسديد الديون والقروض.
بحسب الكاتب الاقتصادي المصري جلال أمين، فإنه تحت وطأة الديون بدأ التدخُّل الأجنبي في شؤون مصر، إذ وضع تحت تصرف خبير بريطاني كل ما يريد الخديوي جمعه من معلومات عن إيرادات مصر ومصروفاتها العام 1875، ليضطر في السنة التالية إلى قبول إنشاء صندوق الدين المكون من مراقبين أوروبيين يمثلون أهم الدول الدائنة، وهما جوشين الإنجليزي الذي كان يعادي إسماعيل المفتش، وجوبير الفرنسي، ما أدى إلى تشكيل لجنة تحقيق في العام 1878.
المفتش عارض المقترحات الأجنبية لحل مشكلة ديون مصر، حيث رأى أن المقترح الذي تقدم به مندوبو الدائنين يمس بالسيادة والحقوق المصرية، ويرى المؤرخ الأيوبي أنه "وإن كان المفتش مُحقاً فى رأيه هذا، إلا أنه لا يُغفر له دوره في هذا الوضع البائس، بما عقده -كوزير مالية- من اتفاقيات قروض سيئة وفاسدة".
إذ اشتعلت أزمة كبيرة بين المفتش والمندوب البريطاني، الذي مارس الضغط على الخديوي بأن يُقيل المفتش من منصبه، فأخذ كل منهما يحاول التغلُّب على الآخر، والتفَّ كارهوا المفتش من العائلة الملكية ومن الوزراء الآخرين إلى صف جوشين، وكانت هناك بوادر خلافات وتهديدات مبطنة بين الخديوي والمفتش.
بدوره حاول الخديوي إسماعيل بشتَّى الطرق التحايل على مطالب أوروبا وبريطانيا بكافة الطرق، إلا أنه أُجبر على إقالة المفتش واضطر للخضوع التام للقرار الفرنسي والبريطاني، ووضع إيرادات مصر من السكك الحديدية وميناء الإسكندرية تحت السيطرة الأجنبية ضماناً لتسديد ديونه.
بعد هذه الأزمة التي طالت مصر وكذلك كلاً من شخص الخديوي إسماعيل وإسماعيل المفتش، انتهت حياة المفتش بعد أسابيع قليلة على هذه الأحداث، في حادثة اختفاء غامضة، وظلت مثيرة للجدل حتى وقتنا هذا.
جدل حول وفاة الخديوي الصغير
لا توجد معلومة أكيدة حول طريقة مقتل ومكان جثة إسماعيل المفتش، فهناك رواية تقول إن الخديوي غدر به بعد أن ذهب في نزهة معه، ثم أمر الجنود بحبسه وأوعز بقتله ومن ثم رميه بالنيل، بدلاً من محاكمته، كونه يحمل النيشان من السلطان العثماني.
لكن رواية أخرى تقول إن الخديوي أمر بحبسه ثم نفيه إلى مدينة دنقلة بالسودان، وقبل الوصول لمدينة حلوان المصرية تم قتله بطريقة بشعة، فقد جذبه القاتل من خصيتيه بعنف وظل يضغط عليهما حتى لفظ أنفاسه فألقي في النيل، ولم يعثر له على جثة وليس له قبر حتى الآن.
لكنّ أنصار الخديوي قالوا إنه وصل مدينة دنقلا السودانية ومن شدة السكر هناك مرض ومات، وقيل أيضاً إنه انتحر ما عن رفاته، وتعليقاً على ذلك تقول حفيدة المفتش إنه يوجد في السودان قبر في منطقة دنقلا، لكنها تعتقد أن السلطات أشاعت وفاته سكراً وهو غير صحيح.
حفيدته رجحت أنه في الأغلب بقي في قاع النيل إلى أن تحلل ولم تطفُ جثته بفضل الأثقال التي رُبطت إلى جسده.
أما وبالعودة إلى الخديوي إسماعيل فلم تنجح محاولاته لاستعادة سيطرته على زمام الأمور، فقد عزل مجلس الوزراء الجدد الذي فرضه عليه الأوروبيون وحاول تشكيل وزارة خاصة، وتجاهل مشروع لجنة التحقيق الأوروبية المالي، ولم يستطع سداد الديون ولا الفوائد المترتبة عليها.
وتحت ضغط كل من قنصلي إنجلترا وفرنسا على السلطان العثماني عبد الحميد الثاني أصدر فرماناً بعزل الخديوي إسماعيل في العام 1879، وكانت النوايا الاستعمارية المبيتة منذ حفر قناة السويس بدأت بالوضوح التام لدى بريطانيا في السيطرة السياسية والعسكرية على مصر، التي احتلتها في العام 1882.