شهدت السلطنة العثمانية إصلاحات عديدة ومهمة في عهد السلطان مصطفى الثالث في منتصف القرن الثامن عشر، إذ اجتهد خلال فترة حكمه كي ينهض بالدولة عسكرياً واقتصادياً، ولو لم يسبق الموت مخططاته مع الصدر الأعظم، لكان على وشك تنفيذ مشروع تجاري ثوري، كان سيغير وجه المنطقة بأكملها كما نعرفها اليوم، وربما غيّر مصير الدولة العثمانية كذلك.
المشروع كان فكرة الصدر الأعظم راغب محمد باشا، الذي كان يحلم بربط مضيق البوسفور بنهر دجلة.
كان السلطان مصطفى الثالث يبلغ من العمر 42 عاماً عندما تسلم مقاليد الحكم بعد ابن عمه عثمان الثالث في عام 1757، وكان يرى- كغيره من السلاطين بالطبع- أنّ الخطر الأكبر يتمثل في روسيا، وأنه كان بحاجة لإصلاحات عسكرية فورية لمواجهة الخطر الروسي.
بدأ سياسته بعقد اتفاقية عسكرية مع دولة بروسيا في حال اندلعت الحرب، وتفرغ لتمكين الدولة؛ تحسباً لهذه المواجهة.
كان مثقفاً ومطلعاً على التاريخين العثماني والإسلامي، ودرس علوم الفلك والأدب والطب خلال سنوات العزلة التي قضاها قبل توليه العرش، ما شكَّل لديه تصوراً عن مخططاته لإدارة الدولة.
ولأنه كان حريصاً على دعم الجيش، أرسل سفيره أحمد رسمي أفندي إلى حليفه ملك بروسيا، فريدريك الثاني، عندما سمع عن إصلاحاته العسكرية، حسبما نشر موقع Ottomans.org.
فعاد مبعوثه محملاً برسالة، مفادها ما يلي:
- اقرأ التاريخ وافحص التجارب
- حاوِل أن يكون لديك جيش قوي وفي أثناء السلام علِّم جنودك
- ركِّز على الاقتصاد
- املأ خزينتك بالمال دائماً
فوضع السلطان استراتيجيته بضرورة دعم هذين القطاعين لتعزيز دعائم الدولة.
بدايةً، نصّب السلطان مصطفى الثالث الوزير راغب باشا في منصب الصدر الأعظم، كما زوّجه أيضاً أخته السلطانة صالحة.
كان راغب باشا رجل دولة بامتياز، إذ خدم حاكماً إقليمياً لمصر من 1744 إلى 1748، ثم تولى منصب الصدر الأعظم من 1757 حتى وفاته في عام 1763.
وكان معروفاً أيضاً بحبه الشعر كما السلطان، وكان لقبه Koca أو "العملاق" باللغة التركية. شكَّل الرجلان فريقاً إصلاحياً حقق عدة إنجازات خلال فترة حكم امتدت 17 عاماً.
الإصلاحات العسكرية
في تلك الفترة أيضاً، عيَّن السلطان مصطفى الثالث البارون المجري فرنسوا دي توت مستشاراً للإصلاحات العسكرية، وكُلف بإنشاء فرقة مدفعية سريعة الطلقات تضم 250 جندياً وضابطاً، على أن يدرب هذه الفرقة على الأساليب الحديثة.
بنى "دي توت" القلاع على ضفتي مضيق الدردنيل؛ لصدّ أي هجومٍ مُحتَمَل، إلى جانب تأسيس مدرسة لتخريج ضباط المدفعية وأركان الحرب وتدريب ضباط البحرية على وسائل الحرب الحديثة.
ويُعرف المركز التعليمي الخاص بتخريج ضباط البحرية حالياً بجامعة إسطنبول التقنية İstanbul Teknik Üniversitesi، ولاتزال هذه الجامعة قائمة حتى يومنا هذا بعدما طرأت عليها تغيرات عديدة وتحولت إلى جامعة مدنية من أفضل الجامعات الهندسية في الشرق الأوسط.
ربط دجلة بالبوسفور
ولعل أحد أجرأ وأكبر مشاريع الصدر الأعظم راغب باشا كان توسيع التجارة البحرية والبرية، عبر حفر خليج عظيم يربط بين نهر دجلة و"بوغاز/مضيق البوسفور" في إسطنبول، بحيث تستعمل الأنهار الطبيعية مجرى له على قدر الإمكان، فينشئ قناة مائية تصل بين مضيق البوسفور والمحيط الهندي.
كان لهذا المشروع- لو أبصر النور- أن يربط البحر المتوسط بخليح العرب فالمحيط الهندي، مختصراً حركة التجارة العالمية حول القارة الأفريقية.
أراد السلطان من هذا المشروع الضخم أن يدفع عجلة التبادل التجاري بين ولايات الدولة المختلفة، فيمنع الغلاء والمجاعات ويعزز الأمن الغذائي والاقتصادي، ويسهِّل نقل الأغلال من أطراف السلطنة إلى العاصمة.
لكنّ الموت كان أسرع من تحقيق هذا الحلم، فتوفي راغب باشا ومعه المشروع في عام 1763، ولكن ليس قبل أن يحقِّقا معاً بعض أهم إنجازات الدولة.
إذ أنشأ راغب باشا مكتبةً عُموميةً من ماله الخاص، وكان العقل المدبر خلف تشييد مستشفياتٍ عديدة في سائر الولايات العثمانية؛ لحماية المواطنين من خطر الأوبئة التي كانت تنتشر في شرق القارة الأوروبية آنذاك، خصوصاً الطاعون.
كما أسس مستشفيات للحجر على الواردات الخارجية إذا كانت الأوبئة منتشرة في الخارج؛ ليضمن عدم وصولها إلى أراضي السلطنة، حسبما جاء في كتاب "تاريخ الدول العلية العثمانية" لمحمد فريد.
ولكن بعد وفاة الصدر الأعظم، نشبت الحرب بين روسيا والدولة العثمانية، بعدما عزلت الإمبراطورة الروسية كاثرين الثانية زوجها بطرس الثالث وأمرت بقتله في عام 1762.
كانت كاثرين العظيمة تحلُم بتوسيع نفوذ الدولة الروسية، فبدأت بالاستيلاء على جميع الولايات السويدية، وعندها أدركت الدولة العثمانية أنها إن لم تضع حداً للتقدم الروسي في بولونيا، فلن تقف روسيا عند أي حد.
أعلن السلطان مصطفى الثالث الحرب على روسيا، واندلعت جولة جديدة من "الحرب الروسية العثمانية" بين عامي 1768-1774، ونجح جيش السلطان مصطفى الثالث في تسجيل انتصارات بأكثر من معركة، إلى أنه توفي بعد فترة قصيرة من اندلاع الحرب في عام 1774، ليرثه أخوه عبد الحميد الأول وينقلب سير المعارك لصالح روسيا.
وفق كتاب "تاريخ الدول العلية العثمانية"، فإن السلطان مصطفى الثالث توفي مريضاً من حزنِه في حروب روسيا، بعد أن دام في الملك 16 عاماً و8 أشهر.
وبالفعل يشير المؤرخون إلى أن الحروب العثمانية الروسية، التي استمرت حتى القرن التاسع عشر، كانت أهم أسباب انهيار الدولة العثمانية واستنفاد مواردها أو خزائنها.
ولعل مشروع القناة المائية عبر ربط نهر دجلة بمضيق البوسفور كان سيكون المدد الحيوي لخزائن الدولة ودعم الجيش كما خطط يوماً السلطان مصطفى وراغب باشا.