عند التفكير في التقدم الطبي وعلاج الأمراض الذي وصلنا له اليوم، أول شيء قد يتبادر إلى أذهاننا هو الفئران التي لولاها لما استطعنا على الأغلب تطوير واختبار الكثير من العلاجات والقيام بالعديد من الأبحاث التي أسهمت في التقدم غير المسبوق الذي حققه الطب اليوم.
لكن هل تساءلت من قبل كيف بدأت فكرة التجارب المخبرية على الفئران؟ أو من هو أول شخص جرب استخدام هذه الحيوانات لأهداف البحث العلمي؟
أول إجابة قد نفكر فيها أن أحد الأطباء أو العلماء قد قام بذلك على الأرجح، لكن التاريخ يخبرنا قصة غير متوقعة عن امرأة بسيطة كانت تربي الفئران بغرض التجارة ثم أدخلتها إلى المختبرات لأول مرة لدراسة مرض السرطان.
تعرف معنا في هذا التقرير على آبي لاثروب، المزارعة ومربية الحيوانات التي أدخلت الفئران لأول مرة إلى المختبرات لتصبح نفسها عالمة "غير أكاديمية" في مجال السرطان.
من معلمة إلى مزارعة ومربية حيوانات
ولدت لاثروب في ولاية إلينوي الأمريكية عام 1868، لأبوين معلمي مدرسة حذت حذوهما لتصبح في التاسعة عشرة من عمرها هي أيضاً معلمة. لكن فقر الدم الخبيث أجبرها على التقاعد بعد بضع سنوات فقط. وفي عام 1900، انتقلت إلى بلدة جرانبي لتجرب مهنة تربية الدواجن التي لم تنجح فيها لتتحول بعد ذلك إلى تربية الفئران.
رغم غرابة المهنة، إلا أن موقع Washington Post يذكر أن تاريخ تربية الفئران قديم ويعود إلى القرن السابع عشر على الأقل في اليابان ومنه انتقل إلى أوروبا.
حيث قام مربو وجامعو الحيوانات بتربية الفئران لانتقاء سمات وراثية، مثل ألوان المعاطف أو بهدف بيعها لعروض التسلية.
وفي الولايات المتحدة وبريطانيا، شهدت الفئران الفاخرة (المستأنسة) ارتفاعاً في شعبيتها في أوائل القرن العشرين، حيث احتفظ بها الناس كحيوانات أليفة أو لعروض الفئران.
من فأرين اثنين إلى 10 آلاف
بغرض البيع والتجارة، بدأت آبي لاثروب بتربية مجموعة متنوعة من الحيوانات الصغيرة كالقوارض والأرانب والجرذان، وعلى الأخص الفئران، في مزرعتها البيضاء الصغيرة في جرانبي بولاية ماساتشوستس.
بدأت لاثروب مشروعها الجديد هذا مع اثنين من سلالة فئران كانت معروفة بحركاتها المتمايلة والدائرية الناتجة عن طفرة في الأذن الداخلية.
ثم ضاعفت لاثروب مخزونها حتى وصل في النهاية إلى أكثر من 10000 فأر.
كانت لاثروب مربية ماهرة، وكانت قادرة على تربية الأنواع المرغوبة لزبائنها ممن يريدون الفئران كحيوانات أليفة أو للعروض الترفيهية.
لكن لم يخطر ببالها أن نوعية هؤلاء الزبائن سوف تتغير بسرعة!
وصول الفئران إلى المختبرات
في عام 1902، طلب عالم الوراثة ويليام إرنست كاسل من معهد بوسي بجامعة هارفارد أول مجموعة له من الفئران من مزرعة لاثروب. فقد اكتشف كاسل، الذي كان مهتماً بشكل خاص بعلم الوراثة في الثدييات، أن الفئران ذات الأعمار القصيرة كانت عينة مثالية للبحث.
ولحسن الحظ كان لدى لاثروب المكان الذي من شأنه أن يصبح مورداً مثالياً لأبحاث كاسل.
كما قام عالم الوراثة وعلم تحسين النسل الأمريكي، كلارنس كوك ليتل، الذي كان يعمل مع كاسل، بتربية سلالات فئران فطرية ومستقرة من فئران لاثروب- وهو ما يشير إليه علماء الأحياء وعلماء الوراثة على أنه صنف "نقي".
بالنسبة لأبحاث السرطان، كان هذا يعني وجود سلالة تكاثر مستقرة يمكن من خلالها دراسة الطبيعة البيولوجية والجينية للسرطان في الفئران المصابة بأورام سرطانية وهو اكتشاف أساسي حتى يومنا هذا.
وخلال فترة وجيزة أدرك علماء الوراثة أيضاً أن ما كانوا يبحثون عنه للقيام بتجاربهم موجود في هذه الحيوانات. وسرعان ما وجدت لاثروب نفسها ترسل طلبات الفئران للعديد من المختبرات.
لاثروب تبدأ أبحاثها الخاصة عن السرطان
خلال هذه الفترة الزمنية نفسها التي كانت ترسل فيها الفئران للمختبرات، بدأت لاثروب أبحاثها الخاصة في مرض السرطان.
فبعد أن لاحظت وجود آفات جلدية على بعض فئرانها، أرسلت لاثروب استفسارات لعملائها الباحثين لسؤالهم عما إذا كان لديهم آفات أيضاً. ليأتيها الرد من عالم الأمراض المعروف ليو لوب من جامعة بنسلفانيا، قائلاً إن الآفات سرطانية.
بعد ذلك بدأت المراسلات بينهما لينتج عنها تعاون مهني أنتج عملاً رائداً في مجال أبحاث السرطان، وفقاً لموقع Science Direct.
فقد وجدوا أن حدوث الأورام السرطانية يختلف باختلاف سلالات (أو عائلات) الفئران، وخلصوا إلى أنه إذا تم دمج السلالات عالية الورم بسلالات منخفضة الورم، فإن النسل سيشبه سلالة الورم العالي.
أظهر تعاونهما أيضاً ارتباطاً بين الهرمونات والسرطان: انخفضت أورام الثدي في إناث الفئران المستأصلة المبيض بينما زادت الأورام في الفئران الحوامل.
وبين عامي 1913 و1919، شارك لاثروب ولوب في تأليف 10 أوراق علمية بناءً على تجاربهما، والتي ظهرت في مجلات سابقة بما في ذلك مجلة الطب التجريبي ومجلة أبحاث السرطان.
كلارنس كوك ليتل ينسب عملها له
في عام 1929، أسس ليتل مختبر جاكسون (JAX)، والذي أصبح اليوم مركزاً نشطاً لأبحاث السرطان والمورد الرائد في العالم لفئران المختبرات مع أكثر من 7000 سلالة جينية فريدة تعود الكثير من أصولها إلى سلالات الفئران التي جاءت من مزرعة لاثروب.
ولأنه لم يكن من المعتاد في تلك الفترة نسب عمل علمي لامرأة أو ارتيادها الجامعات بشكل رسمي، فقد نسب ليتل اكتشاف الخلايا السرطانية التي لاحظتها لاثروب له.
والاعتراف الوحيد الذي قدمه إلى لاثروب وعملها كان في ورقة بحثية عام 1931 أشار فيها إليها على أنها "مربية فئران عادية ولديها اهتمام علمي". كما ادعى لاحقاً أنه هو من لاحظ حدوث ورم مرتفع سرطاني في سلالة الفئران الخاصة به وأنه لم يكن على علم بأبحاث لاثروب.
لكن مذكرات لاثروب وأوراقها البحثية العلمية تكشف عن امرأة كانت حريصة ومنهجية في عملها. فقد احتفظت بسجلات تربية مفصلة لجميع سلالاتها المختلفة، وكتبت تواريخ بعض العائلات المتكاثرة، وسجلت ملاحظاتها الخاصة لمختلف السلالات.
ولا يزال فضل عملها باقياً في علم الوراثة وأبحاث السرطان الموجود في أبحاثها المنشورة وفي سلالات الفئران التي قامت بتربيتها وانتشرت في المختبرات في جميع أنحاء العالم.