من اليونان إلى القصور العثمانية.. عن السلطانة كوسم التي حكمت 37 عاماً

عربي بوست
تم النشر: 2021/10/20 الساعة 08:26 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/10/20 الساعة 08:26 بتوقيت غرينتش
السلطانة كوسم - صورة تعبيرية - مواقع التواصل الاجتماعي

مات السلطان أحمد الأول، وتوفي السلطان مراد الرابع بمرض عضال، وخلع السلطان مصطفى الذي كان يلقب بـ"المجنون"، وثار الانكشارية على السلطان عثمان وقتلوه، ثم ثاروا على السلطان إبراهيم وقتلوه، ثم تولى السلطان محمد الرابع الحكم وهو لا يزال صبياً… كل ذلك حدث والسلطانة كوسم صامدة وقادرة على الحفاظ على مكانتها في الدولة العثمانية، مرت عليها فترات من الضعف لكن فيما كان يتساقط السلاطين من حولها استطاعت أن تبقى حية أطول فترة ممكنة، وأن تحكم الدولة العثمانية طوال 37 عاماً.

السلطانة كوسم أو أنستاسيا.. من اليونان إلى القصر العثماني

كوسم لم يكن اسم تلك السلطانة على الدوام، فقد ولدت في اليونان باسم "أنستاسيا" وكانت ابنة كاهن أرثوذكسي يوناني. عاشت أنستاسيا في جزيرة تينوس اليونانية إلى أن بلغت الخامسة عشرة من عمرها، لكن ولسوء طالعها -وربما لحسنه- تم اختطافها آنذاك وبيعت كجارية في إسطنبول.

ونظراً لجمالها اللافت تم إرسالها إلى القصر العثماني، لتدخل في الحرملك وتستحوذ على قلب السلطان المستقبلي أحمد الأول، بجمالها الساحر وذكائها اللافت ونباهتها وصوتها العذب، إذ قيل إنها امتلكت موهبة خاصة في الغناء.

السلطانة كوسم - صورة تعبيرية - مواقع التواصل الاجتماعي
السلطانة كوسم – صورة تعبيرية – مواقع التواصل الاجتماعي

مصائب قوم عند قوم فوائد

قبل عهد كوسم كانت للسلطانة صفية اليد العليا في الحرملك، فقد تمتعت بسلطات واسعة في عهد ابنها السلطان محمد الثالث، لكن عندما توفي خلفه ابنه أحمد الأول عام 1603 وكان أول قراراته حرمان جدته من السلطة ونفيها إلى القصر القديم.

كذلك كان للسلطانة هاندان -والدة السلطان أحمد- سلطة كبيرة في الحرملك، لكنها توفيت بعد تسلم ابنها للسلطة بعامين فقط، وهكذا أصبحت الساحة خالية تماماً أمام كوسم.

من بين جميع محظيّاته كان السلطان أحمد يفضل كوسم، فهي الأكثر قرباً له، وكان يستشيرها في كثير من الأمور، مع ذلك فقد كان السلطان يحرص على ألا يبدو محكوماً من قِبل امرأة كما كان والده، لذلك بقيت صلاحيات كوسم محدودة نوعاً ما، فضلاً عن أنها كانت تفهم طبيعة السلطان، وتحرص على الحذر الشديد عند التدخل في شؤون الدولة. 

ومن الجدير بالذكر أن هذه السلطانة التي كانت تحمل اسم أنستاسيا أطلق عليها في الحرملك اسم ماه بيكار، لكن السلطان أحمد الأول أطلق عليها لاحقاً اسم "كوسم"، التي تعني "زعيم القطيع"، لما عرفه عنها من ذكاء سياسي وحيلة واسعة.

أنجبت كوسم العديد من أبناء السلطان أحمد الأول، واستطاعت لاحقاً أن تحكم لاحقاً كوصية على العرش ثلاث مرات على التوالي.

السلطانة كوسم - صورة تعبيرية - مواقع التواصل الاجتماعي
السلطانة كوسم – صورة تعبيرية – مواقع التواصل الاجتماعي

وفاة السلطان أحمد الأول 

غادر السلطان أحمد الأول الحياة في ريعان شبابه، إذ توفي عن عمر يناهز الـ27 عاماً عام 1617، وبما أن أبناء كوسم كانوا صغاراً آنذاك، أفسح الطريق أمام "مصطفى المجنون" ليتولى عرش السلطنة العثمانية.

كان السلطان مصطفى الأول هو أخو السلطان الراحل أحمد الأول، وقد جرت العادة على أن يقتل السلاطين إخوتهم فور توليهم العرش لتجنب المنافسة، لكن السلطان أحمد لم يفعل ذلك، وأبقى على حياة أخيه مصطفى ليصبح خليفة له.

المشكلة كانت أن السلطان مصطفى كان مختلاً عقلياً، وقد تولى الحكم عدة أشهر، ثم تقرر عزله بعد ذلك بسبب عدم أهليته للحكم، ليتولى العرش عثمان الثاني، ابن السلطان أحمد من زوجته ماه فيروز. 

أما عثمان الثاني فلم يصمد في الحكم مطولاً، إذ اعتلى العرش في عام 1618 واستمر حتى عام 1622، عندما ثار عليه الانكشارية وقتلوه بسبب تخفيضه رواتبهم.

وبعد مقتل عثمان، أعاد الانكشارية عمه مصطفى المجنون إلى الحكم، كونه سلطاناً ضعيفاً يسهل التحكم فيه، لكن كوسم استطاعت التوصل إلى اتفاق مع الوزير الأعظم وبقية الوزراء لتصحيح الوضع وعزل مصطفى الأول مرة ثانية، وتنصيب ابنها مراد كسلطان للإمبراطورية العثمانية.

مراد الرابع يهدد والدته كوسم بالنفي

مع اعتلاء مراد الرابع العرش عام 1623، حازت كوسم لقب "السلطانة الوالدة"، وكانت الوصية الرسمية على ابنها البالغ من العمر 11 عاماً.

أشار المؤرخون إلى أن كوسم استطاعت إدارة شؤون الدولة بفاعلية في عهد ابنها مراد، فكانت تحضر اجتماعات مجلس الوزراء من خلف ستار، وتلتقي السفراء الأجانب لمناقشة المعاهدات الدولية، وكانت مسؤولة عن تعيين الشخصيات السياسية الأساسية في الدولة، وتمكنت من توثيق علاقاتها مع القضاة ورجال الدولة.

استمر الأمر على هذا الحال 9 سنوات، وعندما بلغ السلطان مراد الرابعة العشرين من العمر قرر إبعاد والدته عن المشهد السياسي، خصوصاً أن قوتها وسلطانها كانا يتعاظمان، لدرجة أنها نافست السلطان ذاته.

ولم يكتفِ مراد بذلك، بل هدّد والدته بالإقصاء والنفي عن العاصمة إذا لم تقطع صلتها برجال الدولة وتتوقف عن التدخل في شؤون الحكم.

لكن بدا جلياً أن مراد لم يستطع إدارة أمور البلاد بكفاءة بنفسه، فقد غرقت البلاد بحالة من الفوضى، واندلعت الثورات شمال الأناضول، حتى إن الانكشارية قاموا باقتحام القصر عام 1632 وقتل الصدر الأعظم أحمد باشا.

ولم تستطع كوسم أن تمنع ابنها مراد من قتل شقيقه الأمير قاسم، مع ذلك فقد لعبت دوراً هاماً في حماية شقيقه الآخر إبراهيم، وأقنعت مراد بعدم قتله كونه لا يشكل خطراً أو تهديداً لسلطته.

السلطانة كوسم - صورة تعبيرية - مواقع التواصل الاجتماعي
السلطانة كوسم – صورة تعبيرية – مواقع التواصل الاجتماعي

إعدام آخر أولاد كوسم

كان إبراهيم أحد أبناء كوسم والسلطان أحمد، وقد تمكنت والدته بصعوبة من إقناع أخيه بعد قتله، وهكذا تولى إبراهيم العرش العثماني بعد موت أخيه السلطان مراد بسبب مرض عضال عام 1640.

لم يكن إبراهيم راغباً في العرش، وقد كان خائفاً من أخيه، لدرجة اعتقد معها أنه لا يزال حياً، وادعى الموت ليوقع به، ويقوم بإعدامه بتهمة الخيانة، لكن كوسم تمكنت من إقناعه بتولي المنصب في نهاية المطاف، فقد كان آخر أولادها الذكور الأحياء.

لم يكن إبراهيم مستقراً عقلياً لدرجة تسمح له بالحكم، لذا عادت والدته كوسم إلى الواجهة من خلاله.

تنحى إبراهيم تماماً عن السياسة وأمور الحكم، تاركاً الأمور بيد والدته، وغارقاً في الملذات، لكن تقرب بعض المحظيات ورجال الدولة منه قلب موازين القوى في الدولة، إذ لم تعد كوسم المتحكمة المطلقة في كل شيء. 

لم يدم حكم إبراهيم أكثر من 7 سنوات، إذ رأى رجال الدولة أنه لا مفر من عزله، ولجأوا إلى كوسم للاتفاق معها على تولية ابنه محمد العرش بدلاً عنه.

عندما علم السلطان إبراهيم بهذه المؤامرة قام بنفي أمه السلطانة كوسم، مع ذلك لم يسلم إبراهيم من غضب الانكشارية، الذين ثاروا عليه وقتلوه كما قتلوا السلطان عثمان من قبله، وكان ذلك دون علم والدته كوسم، التي تم الاتفاق معها على تنحيته فقط. 

وصية على العرش للمرة الثالثة

مع وفاة ابنها إبراهيم وصعود ابنه محمد الرابع، البالغ من العمر 7 سنوات إلى العرش، أصبحت كوسم وصية على عرش الإمبراطورية العثمانية للمرة الثالثة.

وأصبحت بحكم الأمر الواقع حاكمة الإمبراطورية العثمانية بين عامي 1648 و 1651.

في هذه الفترة عادت كوسم بقوة إلى الحكم، وكانت تعين رجال الدولة وفقاً لولائهم لها واتباعهم لأوامرها، كما جمعت ثروة هائلة من خلال جمع ضرائب الزراعة وامتلاك واستئجار المباني التجارية، والاستثمار على نطاق واسع في الأنشطة الاقتصادية المتنوعة.

ساءت أحوال الدولة في فترة حكم كوسم، واستبد الانكشارية بالحكم، وسيطروا على شؤون الدولة، وقد أطلق المؤرخون على هذه الفترة "سلطنة الأغوات".

وإلى جانب انهيار أوضاع الدولة واجهت كوسم مشكلة أخرى، وهي النفوذ المتزايد لتورهان سلطان، والدة محمد الرابع.

النهاية

كان يفترض أن تنال تورهان سلطان لقب "السلطانة الوالدة"، باعتبارها أم السلطان محمد الرابع، لكن كوسم انتزعت هذا اللقب منها.

لكن تورهان لم تكن لتتنازل عن السلطة دون قتال، وفي حين كانت كوسم مدعومة من الجنود الانكشاريين استطاعت تورهان استمالة الخصيان والوزير الأكبر.

ومع تعاظم نفوذ تورهان قررت كوسم تنحية محمد الرابع عن العرش، واستبداله بحفيد آخر لها، وخططت لقتل السلطان وأمه، لكنها تعرّضت للخيانة، وتم كشف مخططها وإحباطه.

وقرّرت تورهان أن تقوم بضربة استباقية، فبعثت مجموعة كبيرة من المسلحين الذين هاجموا كوسم في مخدعها، وقتلوها بعد أن قاومتهم حتى آخر رمق.

تحميل المزيد