"مَاتَ الشَّاعر! سَقَطَ شهيداً، أسيراً للشرفِ".. لم تكن هذه الكلمات نبؤة من صاحبها بمقتله، الذي مات بنفس الطريقة التي وصفها في شعره وهو ابن الـ27 عاماً، بل كانت أشهر أبيات شعرية كتبها الشاعر ميخائيل ليرمنتوف عن شاعر روسيا الأول إلكسندر بوشكين، الذي مات صريعاً في إحدى المبارزات القتالية (بالعام 1837).
كان بوشكين أحد أعظم الشعراء الروس في العصر الحديث، ويعتبره الكثيرون مؤسس الأدب الروسي الحديث، وكان ليرمنتوف خليفة بوشكين بلا منازع وثاني أكبر شعراء روسيا بعد بوشكين، والذي سار على نفس منهج بوشكين بالدفاع عن الحرية، ونضاله ضد قهر السلطات الروسية -القيصرية آنذاك- وجاءت نهاية ليرمنتوف لتشبه بوشكين أيضاً ليموت إثر مبارزة قتالية راح ضحيتها وهو في ذروة شبابه وإنتاجه الأدبي.
جنباً إلى جنب مع المناداة بالثورة والحرية ومحاربة الفساد التي شغلت حيزاً كبيراً في أعمال ليرمنتوف، كانت الثقافة العربية والإسلامية حاضرة في أعماله، إلى درجة اقتباسه معاني إسلامية مثل التسليم بالقدر ووصف الجنة وصورة الشيطان وملاك الموت، وكذلك وصف المقدسات الدينية في القدس وفلسطين، والأحداث السياسية في مصر إبان فترة حكم محمد علي.
ميخائيل ليرمنتوف.. من الدراسة العسكرية إلى الأدب
العام 1814 في موسكو شهد مولد ميخائيل ليرمنتوف في عائلة عسكرية نبيلة ذات أصول عريقة، وفي سن الثالثة ماتت والدته لينتقل إلى العيش مع جدته لترعاه، وبذلك قضى ليرمنتوف الكثير من الوقت في ضواحي روسيا حيث تعيش جدته، ويبدو أن الحياة في الريف عملت على تنمية حسه الأدبي، وكذلك الآلات الموسيقية والرسم الذي حرصت جدته على تعليمه إياه.
في سن الـ 12 انتقل ليرمنتوف إلى موسكو لحضور مدرسة داخلية للنبلاء، وكان طالباً ممتازاً، وفي هذا الوقت تطور اهتمام ليرمنتوف بالأدب الإنجليزي خاصة بالشاعر الإنجليزي اللورد بايرون، وهو ما طور مواهبه الشعرية، كما شرحت The Moscow Times الروسية الناطقة باللغة الإنجليزية.
بعد ذلك التحق ليرمنتوف بجامعة موسكو في العام 1830 كطالب في فقه اللغة، لكنه ترك الجامعة بعد عامين فقط من الدراسة لأنه أساء إلى أساتذته أكثر من اللازم -على حد وصف The Moscow Times – وسرعان ما انتقل إلى مدينة بطرسبرغ -العاصمة حينذاك- حيث التحق بمدرسة عسكرية مرموقة من العام 1832 إلى 1834، ليصبح ليرمنتوف بعدها ضابطاً في الحرس الإمبراطوري، بينما كان منهمكاً في كتاباته الأدبية.
حينها كان ألكسندر الأول هو إمبراطور روسيا، في الوقت الذي بدأت فيه مطالبات شعبية باتخاذ إجراءات لتخفيف الوطأة عنهم في انتفاضة عُرفت بـ"انتفاضة الديسمبريين". في غضون تلك الأحداث تشكلت ملامح مدرسة ليرمنتوف الأدبية الداعية إلى التمسك بالحرية ومحاربة الفساد، متخذاً من بوشكين قدوة له، واستمرت حياته الأدبية 13 عاماً، والذي جسَّد معاني الثورة وطموحاتها وأدبياتها في أعماله والذي أنتج العديد من الأعمال الأدبية، والتي كان من بينها الشعر والمسرحية والرواية، طبقاً للكاتبة المصرية مكارم الغمري في كتابها "مؤثرات عربية وإسلامية في الأدب الروسي".
كان من بين تلك الأعمال رواية "بطل من هذا الزمان" التي كتبها في العام 1840، وعدت إحدى أهم الروايات الروسية الكبرى، وقد جسد فيها ليرمنتوف أهم أفكاره وعكس فيها الواقع في روسيا في ذلك الوقت.
تحكي الرواية عن ضابط روسي في جيش القوقاز يتمتع بالعديد من المهارات والمزايا الحسنة، مثل الذكاء وحبه للثقافة، إلا أن الأحداث لم تتركه سعيداً بمهاراته وما يحب، إذ عاش بطل الرواية تعيساً يعيش في ضجر واكتئاب، وهو ما يعكس العصر الذي عاش في ليرمنتوف بإخفاقاته الكثيرة وضياع الأحلام والفرص، المتمثلة في انتفاضة الديسمبريين الذي خاض غمارها بنفسه، والتي جسدت الصراع بين الحلم والواقع، وهو ما كان إيذاناً بمولد الأدب الروسي الحديث المدافع عن الثورة والحرية، والذي طوره ونماه ليرمنتوف عن بوشكين.
من أجل ذلك، وصف الناقد الأدبي الكبير فيساريون بلنسكي ليرمنتوف أنه "الشاعر الذي تجسدت فيه اللحظة التاريخية للمجتمع الروسي".
لمسات إسلامية في أعمال ليرمنتوف
شغلت الثقافة العربية والإسلامية حيزاً كبيراً في أعمال ليرمنتوف، كما عنيت إنتاجات ليرمنتوف بمنطقة القوقاز -النطاق الإسلامي الأقرب لروسيا- حتى أُطلق عليه "شاعر القوقاز" كما ذكرت مكارم الغامري.
إذ استطاع ليرمنتوف مزج الثقافة العربية وثقافة القوقاز في أعماله، مستوحياً من الشرق العربي الكثير من قصائده، وكذلك امتلأت أعماله بقضايا مسلمي القوقاز، حيث عايش ليرمنتوف مسلمي القوقاز عن قرب وعرف وتعلم منهم الكثير عن تعاليم الإسلام وتعاليمه.
كما عرف ليرمنتوف العقيدة الإسلامية عن قرب، وأحب شخصية الرسول وشعر بقربه من تعاليم الإسلام والرسول والتي عبَّر عنها في قصيدته "فاليريك" التي كتبها بالعام 1840، بقوله:
فـــــــــــــربمـــــــــــــا ســـــــــــــمـــــــــــــاء الــــــــــــــشــــــــــــــرق
قــــــــد قــــــــربــــــــتــــــــنــــــــي بــــــــلا إرادة مــــــــنـــــــــي
مـــــــــن تـــــــــعــــــــــالــــــــــيــــــــــم نــــــــــبــــــــــيــــــــــهــــــــــم
ليرمنتوف وتأثره بالقرآن
ارتبط ليرمنتوف بالإسلام في وقت كان يشعر فيه بالوحدة والغربة، إذ كان هناك قرابة روحية وشوق للسفر إلى مكة المكرمة والمسجد الحرام التي كتب عنها لصديقه كرايفسكي.
وفي قصيدة "ثلاث نخلات" ظهر جلياً كيف كان ليرمنتوف متأثراً بآيات القرآن، ففي تلك القصيدة عبر ليرمنتوف بإيمانه بالفناء والبعث، كما جاءت قصة النخلات مشابهةً كثيراً لقصة صاحب الجنة التي وردت في سورة الكهف، وتحاكى النقاد كثيراً عن المتشابهات بينهما. وفي نفس تلك القصيدة، ظهرت معرفة ليرمنتوف العميقة بملامح الصحراء العربية والفارس العربي وصفاته.
استمر استلهام واستكشاف ليرمنتوف للثقافة الإسلامية، فمن وحي السيرة النبوية، استوحى مضمون قصيدته "الرسول" التي كتبها في العام 1841، وسبق أن تناولها بوشكين في قصيدة بنفس العنوان "الرسول" و"قبسات من القرآن"، والتي ظهر فيها تأثر ليرمنتوف بهجرة الرسول من مكة إلى المدينة بعد أن قوبلت الدعوة بالنكران والتنكيل، وكأنه رأى في نفسه ما يشبه وضع الرسول، حيث كان مضطهداً، وكانت تتعقبه السلطات وتطارده عقاباً له على أشعاره الثورية والوطنية.
من جديد، استلهم ليرمنتوف من وحي القرآن صورة إبليس، الذي كان ملاكاً لكنه لم يمتثل لأمر ربه ولم يسجد، فأخرجه الله من الجنة، في عدة قصائد كان منها قصيدتان بعنوان "إبليس"، مرة في العام 1829 والثانية في العام 1831، كما كانت تلك الصورة محببة لليرمنتوف، حيث ظهرت كثيراً في قصائده وقصصه الشعرية، مثل "عزرائيل"، و"ملاك الموت". وفي قصائده التي تتناول قصة إبليس كان ليرمنتوف يقوم بوصف الجنة كما حكى عنها القرآن.
أيضاً، في الفترة الأخيرة من حياته، تأثر ليرمنتوف بالقرآن والعقيدة الإسلامية تأثيراً جلياً ما انعكس على أعماله وفكره، فمثلاً كانت قضية الإيمان بالقضاء والقدر من أهم سمات فكر ليرمنتوف في تلك المرحلة، التي تعكس تأثره بالعقائد الإسلامية، حيث جاءت تعبيراته متشابهة للنص القرآني مثل "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"، "إنا كل شيء خلقناه بقدر"، و"وما ننزله إلا بقدر معلوم"؛ وهو ما يدل على أن ليرمنتوف كان على دراية بمضمون آيات القرآن عن معاني القدر.
جاءت فكرة القدر بارزة في عدة أعمال روائية لليرمنتوف والتي كان من أبرزها روايته الشهيرة "بطل من هذا الزمان"، كما تجسدت تلك الفكرة أيضاً في قـصـة "العاشق الغريب" التي تضمنت الكثير من الأفكار الإسلامية وأبرزها الإيمان بالقضاء والقدر.
وفي قصة العاشق الغريب استوحت أحداث القصة العديد من قصص القرآن، فعلى سبيل المثال تذكر القصة أن أم العاشق فقدت بصرها حزناً على فقدان ابنها، ثم ارتد إليها بصرها حين عثرت عليه من جديد، مذكرةً إيانا بقصة يوسف -عليه السلام- حين ارتد البصر إلى أبيه بعد أن عرف مكانه بعد فقدانه زمناً طويلاً.
ومضات عربية حضارية
امتد اهتمام ليرمنتوف في الشرق العربي ليس فقط بروحانيته، بل بحضارته وواقعه المعاصر، وفي الواقع لم يكن اهتماماً عادياً، بل اتجه ليرمنتوف لدراسة تراث الشرق الحضاري دراسة عميقةً متأنيةً، وساعده على ذلك كونه من النبلاء مما سهل عليه حينها التوغل في العلم والدراسة.
ففي قصيدته "ساشكا" على سبيل المثال؛ عبر ليرمنتوف عن انجذابه لحضارة الشرق وما فيها من عادات، إذ ذكر تحريم شرب الخمر وأكل الخنزير.
وفي واحدة من أهم قصائد الأدب الروسي "غصن فلسطين" التي كتبها في العام 1837، أظهر ليرمنتوف براعة ودقة علمه عن جهات متعددة في الشرق، من الجغرافيا إلى التاريخ وغيرها من الأمور، ففي قصيدة غصن فلسطين؛ برع ليرمنتوف في وصف القدس وفلسطين وصفاً دقيقاً، وكونها موطناً للديانات وأرضاً للمقدسات.
كما تطرق ليرمنتوف لوصف جغرافية فلسطين ومواردها الطبيعية وسماتها المميزة، ففي قصيدته، أبرز ليرمنتوف بعض أجزاء فلسطين التي تمتد بها السهول والوديان الخصبة وتزدهر بها الثمار، أما في جزء آخر فقد وصف النباتات هناك، والمناخ المعتدل. وبذلك، اعتُبر ليرمنتوف من أوائل الشعراء الروس الذين خلدوا فلسطين في الأدب العالمي -ليس الروسي فقط- رغم أنه لم يزر الناصرة ولا مهد المسيح.
حدثني يا غصن فلسطين
أين كنت تنمو وأين كنت تزهر؟
أي وديان وهضاب كنت تزين؟
أكانت مياه الأردن الطاهرة بقربك؟
أم كانت شمس الشرق تداعبك؟
هل كان أبناء القدس الفقراء
يصلون بصوت خافت
أم يرتّلون أناشيد الزمن الغابر…
وتعد قصيدة "الجدل" التي كتبها في العام 1841، من أبرز القصائد التي تكشف عن معرفة الشاعر بحضارة الشرق وجغرافيته، وليس ذلك فقط، بل عكست متابعته للصراع القائم في الشرق، وساعده على ذلك حسه العسكري.
وفي هذه القصيدة، حذر ليرمنتوف رجال الشرق من الزحف الاستعماري عليهم. وفي جدله حول مصير الشرق، قارن ليرمنتوف بين الشرق القديم الذي خلد الحضارة والثقافة، والشرق الحديث الذي مال للضعف، ما جذب أطماع الاستعمار إليه.
كما كان ليرمنتوف يهتم اهتماماً خاصاً بالأحداث السياسية في مصر، فقد أشار إلى أحداث الصراع بين محمد علي والإمبراطورية العثمانية في قصته الشعريـة "أسطورة للأطفال"، حيث برزت مصر كمحور يحرك الأحداث العالمية. وبعيداً عن السياسة برع ليرمنتوف في قصيدته "المركب الهوائي" بالتغني بجمال طبيعة مصر.
ويظهر جلياً -وفقاً لرأي مكارم الغمري- أن انجذاب ليرمنتوف تجاه الشرق العربي الإسلامي لم يكن فقط مظهراً من مظاهر الانبهار بالشرق القديم وحضاريته وعراقته، بل كان وراء ذلك أيضاً أهتمام دقيق بشؤون العالم العربي والإسلامي، ومن جهة أخرى استشعر ليرمنتوف في القيم الدينية للشرق العربي الإسلامي معيناً روحياً، وملاذاً لنفسه، التي كانت تعيش تناقضاً بينها وبين الواقع، ومن هنا كانت أبياته:
إنــــــــنــــــــي لا أبــــــــحــــــــث عــــــــن عــــــــقــــــــيــــــــدة رغـــم أن روحـــي تـــســــعــــى إلــــى الــــشــــرق.
موت الحرية ومقتل الشاعر
في فبراير/شباط عام 1840، قُدِّم ليرمونتوف إلى المحاكمة أمام محكمة عسكرية بسبب مبارزة مع ابن السفير الفرنسي في سانت بطرسبرغ، وهو التقليد الروسي المتعارف عليه في روسيا، وهو ما استخدم كذريعة لمعاقبة الشاعر المتمرد، أما عن السبب الحقيقي فكان لانتقاده النظام الملكي، وعلى إثر ذلك حُكم على ليرمنتوف بالذهاب إلى المنفى في القوقاز.
هناك نشأ جو من المؤامرات والفضائح والكراهية ضد الشاعر الشاب، وهو ما أدى إلى نشوب شجار بين ليرمنتوف وضابط في الجيش الروسي يدعى نيكولاي مارتينوف، وخاض الاثنان مبارزة انتهت بوفاة الشاعر.
وكما رثى ليرمنتوف نهاية الشاعر الكبير بوشكين، رثى العالم موت ليرمنتوف في العام 1841 وهو ابن 27 عاماً، ليكون كل هذا الحصاد والقيمة الأدبية التي وصل إليها، وهو في ريعان شبابه، كما أشارت مجلة DIVER.