من الصعب في يومنا هذا تسيير أعمالنا وعيش حياتنا اليومية دون الاتصال الفوري الذي توفره رسالة نصية سريعة أو مكالمة هاتفية وقد نستخدم حتى أكثر من طريقة تواصل في الدقيقة الواحدة لتسيير هذه الأعمال، فقد نكون نتلقى اتصالاً هاتفياً في الوقت نفسه الذي نكتب فيه رداً على بريد إلكتروني.
لكن ماذا عن أسلافنا الذين كانوا ينتظرون لأيام وأسابيع حتى بلوغ رسالتهم ومدة أطول لتلقي الرد؟ ما هي الوسائل التي استخدموها لنقل أخبارهم وإيصال رسائلهم؟
تماماً مثل كل شيء موجود في هذا العالم، فإن طريقة إرسال البريد والاتصالات لها أيضاً تاريخها الخاص؛ ومرت بكثير من التحسينات والأنماط المختلفة على مر السنين.
من الدخان والحمام الزاجل إلى القوارير التي تحمل رسائل، تعرف معنا على طرق التواصل القديمة التي استخدمها الإنسان قبل الهواتف والرسائل النصية.
الدخان.. "تلغراف مرئي" تحذيري في الصين القديمة
سنعود معاً إلى أكثر من 3 آلاف سنة، بالتحديد في عام 1800 قبل الميلاد، عندما استخدم الجنود الصينيون لأول مرةٍ إشارات الدخان لحماية سور الصين العظيم من الأعداء والغزاة.
في حال اقتراب الأعداء، كان الجنود يصدرون دخاناً في النهار ويشعلون ناراً في الليل على أبراج تسمى أبراج المراقبة منتشرة على نقاط مختلفة من سور الصين العظيم، لتحذير قواتهم على الأطراف الأخرى التي قد تبعد 500 ميل عنهم أو حتى لتمرير رسائل عسكرية، مما جعله أقدم "تلغراف مرئي" يمكن أن ينتقل عبر مسافات طويلة عُرف في التاريخ.
ولم يقتصر استخدام الدخان وسيلة اتصال على الصينيين فقط، بل انتقل إلى بلادٍ أخرى.
في سريلانكا القديمة، كان الجنود المتمركزون على قمم الجبال يحذر بعضهم بعضاً من هجومٍ وشيك للعدو (من الإنجليز أو الهولنديين أو البرتغاليين) عن طريق إرسال إشارات من قمة إلى أخرى.
كما تواصلت الشعوب الأصلية في أمريكا الشمالية عبر الدخان أيضاً. فقد كان لكل قبيلة نظام الإشارات الخاص بها وطرق معينة لفهمها.
كان يتم استخدام العشب الرطب لإشعال النار، وكان موقع الدخان ومداه ينقلان معنى معيناً. على سبيل المثال، إذا تم إشعال النار من منتصف التلة، فإن هذا يدل على أن كل شيء على ما يرام، ولكن إذا تمّ إشعاله من أعلى التلة فإن ذلك يدل على أن هناك خطراً ما.
قد يكون الصينيون القدماء استخدموا هذا الدخان التحذيري لأنّه لم تكن هناك تكنولوجيا تساعدهم، ولكن المثير أن "الدخان" مازال مستخدماً في بعض الطقوس، وتحديداً في طقس اختيار البابا بالفاتيكان.
إذ يتم حرق بطاقات الاقتراع بعد كل تصويت، ويشير الدخان الأسود إلى فشل الاقتراع في اختيار بابا جديد، بينما يشير الدخان الأبيض إلى نجاح الاقتراع في اختيار البابا الجديد.
الطبول.. تنطق كالبشر!
في المجتمعات البشرية الأولى وقبل تطور اللغة المكتوبة، طوّر الناس طرقاً لإرسال رسائلهم عبر مسافات طويلة، منها الطبول.
استخدمت بعض القبائل في إفريقيا وغينيا الجديدة وأمريكا الاستوائية، الطبول تلغرافاً للتواصل مع بعضهم البعض عبر مسافات بعيدة في الغابات لعدة قرون.
ومن أشهر طبول الاتصالات كانت طبول غرب إفريقيا المسماة "الطبول الناطقة" التي استخدمت أيضاً في أمريكا ومنطقة البحر الكاريبي وشرق إفريقيا ونيجيريا، عبارة عن طبلة على شكل ساعة رملية لها رأسان متصلان بأسلاك شد جلدية، مما يسمح للاعب بتعديل درجة صوت الأسطوانة عن طريق الضغط على الحبال بين ذراعه وجسمه. يمكن ضبط نغمات الطبلة لتقليد نغمة ونبرة الكلام البشري لإرسال تحذيرات أو معلومات مهمة.
في كتابه الصادر عام 1949 بعنوان "طبول إفريقيا الناطقة"، أوضح المهاجر الإنجليزي إلى إفريقيا، جون إف كارينجتون، كيف تمكَّن عازفو الطبول الأفارقة من توصيل رسائل معقدة عبر مسافات شاسعة باستخدام نغمات منخفضة يشار إليها باسم نغمات ذكورية وأعلى للإناث، والتي يمكن أن تنتقل من 4 إلى 5 أميال.
العدّائون.. لإيصال رسالة ثم الموت
وسيلة أخرى لنقل أخبار الحرب وتطوّراتها لمسافات طويلة كانت تعيين الرسل والعدّائين الذين كان يطلب منهم الركض لأميال لإيصال الرسائل المهمة.
قام الإغريق القدماء باتباع هذه الوسيلة لإيصال الرسائل عام 490 قبل الميلاد، وأنقذوا بذلك مدن ودويلات اليونان من الوقوع في قبضة الفرس.
عندما هبط الفرس في بلدة ماراثون باليونان، تم إرسال عدّاء يسمى فيديبيدس إلى مدينة سبارتا لطلب المساعدة. ركض هذا العدّاء حوالي 240 كم، ثم ركض عائداً.
ولكن بعد انتصارهم في معركة "الماراثون" وهزيمتهم للجيش الفارسي، كان الإغريق قلقين من أن الفرس، الذين انسحبوا إلى البحر، سيتوجَّهون إلى أثينا لشن هجوم جديد. لذلك كانوا بحاجة لإرسال فيديبيدس برسالة مستعجلة مجدداً إلى أثينا؛ لتحذيرهم هناك، وتطلب منهم التأهب والاستعداد.
ركض فيديبيدس إلى أثينا مسافة 26 ميلاً (40 كيلومتراً) في نحو ثلاث ساعات فقط وأوصل رسالته. إلا أنه كان منهكاً جداً لدرجة أنه فارق الحياة بعدها. لذلك لم يكن استخدام هذه الطريقة للمسافات الطويلة هو الأفضل لتوصيل الرسائل. ومن هنا تم إطلاق اسم "ماراثون" على حدث السباق الرياضي.
الحمام الزاجل.. مُراسل حربي
الحمام هو رمز السلام، ولكنّه أيضاً كانت له مهمّة أخرى، فالحمام الزاجل كان مرسالاً أثناء الحروب أيضاً.
عندما يكون الجيش في معركة، فإنّه يرسل المعلومات والأخبار المهمة من خلال كتابتها في رسالة صغيرة توضع بعلبة معدنية صغيرة ويتم تثبيتها في قدم الحمامة.
وقد تمّ تدريب الحمام الزاجل من خلال حفظه لموطنه، وأخذه لمكانٍ آخر، وهكذا عندما يُترك ليعود إلى موطنه يعود لـ"برج الحمام" في موطنه، الذي هو مرتبطٌ بقصر الملك أو السلطان.
غير معروف من أوّل من استخدام الحمام الزاجل مرسالاً، لكن من المحتمل أن يكون الفرس القدماء هم أول من استخدم الحمام الزاجل بما أنهم هم من بدؤوا فن تدريب الطيور.
كما استخدم كل من الإغريق والرومان الحمام الزاجل لنقل المعلومات والأوامر العسكرية من مكان إلى آخر.
وقد نقل اليونانيون أسماء الفائزين في الألعاب الأولمبية إلى مدنهم البعيدة بهذه الوسيلة.
أما بالنسبة للمسلمين فقد بلغ البريد ذروته في عصر دولة المماليك وتحديداً في حكم الظاهر بيبرس الذي حكم بين عامي 1260 و1277 للميلاد.
وقد أولى بيبرس اهتماماً كبيراً لتنظيم البريد باستخدام الخيول والحمام الزاجل لنقل الأخبار العسكرية.
القوارير.. رسائل الحب والحرب والفلاسفة
القوارير ليست فقط لإرسال رسائل الحب إلى مجهول أو حبيبٍ غائب أو كتابة الأماني ورميها في البحر ليجدها شخصٌ آخر كما في الأفلام الدرامية، لكنها خدمت أيضاً أهدافاً علمية وعسكرية على مر التاريخ.
كان أول استخدام نعرفه للقوارير في نحو عام 310 قبل الميلاد، عندما قام الفيلسوف اليوناني ثيوفراستوس برمي الزجاجات المختومة في البحر لإثبات أن البحر الأبيض المتوسط تشكَّل بسبب تدفق المحيط الأطلسي، آملاً أن زجاجاته سينتهي بها المطاف هناك ويتلقَّى رداً من الطرف الآخر يثبت له عودتها من هناك، لكن لا يوجد أي دليل على أنه قد تلقى أي رد حينها، وفقاً لما ذكره موقع National Geographic.
وفي القرن السادس عشر، قامت الملكة إليزابيث الأولى، ملكة إنجلترا وأيرلندا، بإنشاء منصب وظيفي لشخص، عمله الرسمي هو فتح زجاجات الرسائل، كما كانت هناك عقوبة رسمية بالإعدام لمن يجد زجاجة ويفتحها دون إذن.
أما في التاريخ الحديث ففي القرن العشرين، استخدم جنود الحرب العالمية الأولى الزجاجات لإرسال الرسائل الأخيرة إلى أحبائهم.
الخيول.. استمرت حتى عصر قريب
كانت الخيول وسيلة أساسية لتوصيل البريد والرسائل لسنوات عديدة في بلدان مختلفة حول العالم. يمكن للراكب على ظهر الخيل أن يأخذ حزماً صغيرة من البريد، بينما يمكن للعربات التي تجرها الخيول أن تأخذ كميات كبيرة من البريد لمسافات طويلة جداً.
في عصر الدولة المملوكية وعندما حكم الظاهر بيبرس، وضع نظاماً محكماً للبريد في الدولة سواء المنقول براً بالخيل أو جواً بالحمام الزاجل، كما شرحنا أعلاه، فرتب للخيل المحطات لراحتها وتبديلها، وبهذا الشكل كانت الرسالة تصل من القاهرة إلى دمشق في أربعة أيام وربما ثلاثة وتعود في مثلها، مما أسهم في تعزيز قوة الدولة وأمنها.
استمر استخدام الخيول لإرسال البريد حتى زمن قريب نسبياً، ففي أوائل ستينيات القرن التاسع عشر نشأت خدمة Pony Express الأمريكية التي كانت عبارة عن خدمة توصيل بريدي تخدم بعض مناطق أمريكا في أوائل ستينيات القرن التاسع عشر.
كان نظاماً لإرسال الرسائل باستخدام الخيول قبل اختراع التلغراف. استمرت الشركة 18 شهراً بعد أن أعلنت إفلاسها وتوقفها عن العمل تزامناً مع اختراع التلغراف.
التلغراف الكهربائي.. بداية عهد التواصل الحديث
يعتبر اختراع التلغراف هو نقطة التحول التي استبدلت بعضاً من وسائل البريد السابقة (كالخيول) ومهدت للوسائل الحديثة التي بين أيدينا اليوم كالهواتف الخلوية.
بدأت القصة في عام 1837، عندما طورت مجموعتان من المخترعين في وقت واحد تلغرافاً كهربائياً. المجموعة الأولى كانت تشارلز يتستون وويليام كوك في إنجلترا، والمجموعة الأخرى صمويل مورس ومساعديه في الولايات المتحدة.
وقد طوروا أبجدية جديدة باستخدام النقاط والخطوط التي أصبحت معياراً للاتصالات البرقية. ومع تحسن التكنولوجيا، أصبح التلغراف جهاز إرسال صوتي وبدأ استخدامه في بلدان أخرى.
لاقى استخدام التلغراف قبولاً كبيراً كوسيلة سهلة وسريعة لإرسال واستقبال المعلومات. ومع ذلك، فإن الاستخدام الواسع النطاق والناجح للجهاز يتطلب نظاماً موحداً لمحطات التلغراف يمكن من خلالها نقل المعلومات.
كانت شركة Western Union Telegraphy في البداية واحدة فقط من العديد من الشركات المماثلة التي ساهمت في انتشار الوسيلة الجديدة خلال خمسينيات القرن التاسع عشر.
وبحلول عام 1861، وضعت ويسترن يونيون أول خط تلغراف عابر للقارات. ثم انتشرت أنظمة التلغراف في جميع أنحاء العالم أيضاً. وبحلول عام 1866 تم وضع أول كابل تلغراف دائم بنجاح عبر المحيط الأطلسي ليصل العدد إلى 40 خط تلغراف عبر المحيط الأطلسي بحلول عام 1940.
مع نهاية القرن التاسع عشر، بدأت تقنيات جديدة في الظهور، استند العديد منها إلى المبادئ نفسها التي تم تطويرها لأول مرة لنظام التلغراف.
وبشكل تدريجي تم استبدال التلغراف في معظم البلدان المتقدمة بأنظمة نقل البيانات الرقمية القائمة على تكنولوجيا الكمبيوتر.