افتقد العالم العربي إلى الدولة والمواطنة، إذ إن السلطة "أكلت" الدولة، أو تغوّلت عليها، والحديث هنا عن الدولة باعتبارها قائمة على المؤسسات والقوانين والدستور، وتبعاً لذلك فإن الحديث أيضاً عن المواطنة، أو دولة المواطنين، الأحرار والمستقلين والمتساوين، إزاء مؤسسات الدولة وإزاء بعضهم.
والمعنى أن هذين النقصين اللذين عانى منهما العالم العربي (أي الافتقاد للدولة وللمواطنة)، نجم عنهما تداعيات خطيرة على صعيد الأنظمة العربية، لاسيما المسماة جمهورية، سواء فيما يتعلق بتلك التسمية أو فيما يتعلق بمبدأ السيادة.
وكان مبدأ "سيادة الدول" في العلاقات الدولية أُقر في معاهدة وستفاليا (1648)، التي وضعت حداً لحرب الثلاثين عاماً الأوروبية، الدينية والإمبراطورية، كمبدأ يكفل المساواة والتكافؤ بين الدول، ويمنع تدخل دول في شؤون دول أخرى، وعليه اعتُبر أي تدخل من قبل دولة ما في شؤون أية دولة أخرى عملاً غير مشروع.
معلوم أن هذا الفهم لمبدأ السيادة جاء متأثراً بمفهوم كان بلوره الفيلسوف الفرنسي جان بودان (Jean Bodin, 1530-1596) الذي يُعتبر أول من بلور نظرية متكاملة لمبدأ السيادة، في ظروف تنازع الإمبراطوريات والحروب الدينية. ففي مؤلفه الشهير الذي حمل عنوان: "الكتب الستة في الجمهورية" (Six Livres de Republique)، الذي نُشر في العام 1576 عرّف بودان السيادة بأنها سلطة الجمهورية العليا والمطلقة والأبدية، فهي عليا لأن لا سلطة تعلوها، وهي مطلقة لأنها كلية لا تتجزأ، تكون أو لا تكون، غير أنها ليست دون قيود أو حدود، وهي أبدية لأنها لا تزول مع زوال حاملها، وحامل السيادة هو صاحب السيادة، الحاكم الذي لا يخضع لأي قانون سوى القانون الإلهي أو القانون الطبيعي، وقانون الأمم.
فيما بعد فإن التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية أدّت تالياً إلى تطوير المفاهيم السياسية، ومفاهيم أنظمة الحكم، لاسيما بعد انتهاء الحكم المطلق في أوروبا، بحيث ظهر مفهوم المواطن.
هكذا فإن الفكر السياسي الحديث لا يعترف بوجود مواطن مجرد من الحقوق، أو من المكانة القانونية، فهذا بالضبط ما يميز مواطن الدولة الحديثة، أو النظام الجمهوري، عن الفرد من "الرعية" في أنظمة الحكم المطلق أو أنظمة العصور الوسطى وما قبلها، المستندة أساساً إلى فكرة التفويض الإلهي، أو الغلبة، وهذا ما أقرّته المواثيق الدولية وضمنها الأمم المتحدة وإعلان حقوق الإنسان.
لذا فليس اعتباطاً أن المواطن يتألف من ذوات أفراد متساوين، ويتمتعون بحرية إرادة، وباستقلالية من أية انتماءات قبلية (إثنية أو طائفية أو مناطقية أو عائلية)، في حين أن الثاني مفهوم جمعي لأشخاص لا ذوات خاصة لهم، ولا مكانة حقوقية ولا إرادة حرة ولا استقلالية.
هكذا ففي الجدل بشأن فكرة السيادة، في الدولة الجمهورية، فإن السيادة للشعب، الذي يؤلف الإرادة العامة، والذي يتألف من مجموعة أفراده، الأحرار والمتساوين، وعلى أساس حكم مدني، والفصل بين السلطات، وهذا هو معنى الجمهورية.
وفي هذا الإطار يقول برتراند بادي في كتابه: "عالم بلا سيادة"، إن "مبدأ السيادة لم يكن موجوداً دائماً، وإنه لا ينتمي إلى التاريخ، بل إلى حقبة تاريخية معينة، وهذا المبدأ تم بناؤه من أجل التمييز المطلق بين الداخل والخارج، ولكن هذا التمييز بين الداخل والخارج أصبح نسبياً، فالتناقضات والتساؤلات وعدم اليقين أصبحت ميزة المسرح الدولي الوليد". ولعل هذه الفكرة هي التي أدت إلى ظهور مفهوم "التدخل الإنساني الدولي"، الذي أقرته الأمم المتحدة ونفذته في عدة أماكن، بوسائل القوة.
المعنى أن فكرة السيادة، لدى معظم الأنظمة العربية، تفتقد إلى الركنين اللازمين، حتى من زاوية الفكر القانوني الدولي، وهما التزام الحاكم بالدستور، أي بالعقد الاجتماعي، ووجود مواطنين بمعنى الكلمة.
هذا الواقع يطرح التساؤل حول مضمون كلمة "وطنية" المقترنة بالسيادة، إلا إذا كان القصد منها الدلالة على الحاكم، الذي اختزل المواطنين والوطن بشخصه. وربما يجدر التذكير، في هذا السياق، بأن هذين الركنين باتا لزوم أي دولة حديثة، بغض النظر عن طبيعة نظامها السياسي، ديمقراطياً كان أو غير ديمقراطي، فحتى المنظرون للحاكم الفرد، أو الحاكم المطلق، مثل مكيافيللي، اشترطوا عليه الارتباط بفكرة الحق، أو الخير العام، أو تحقيق الأمن والسلام.
هكذا، لا يتوقف الوضع على كسر النظم التسلطية لمفهوم السيادة، وابتذاله، باختصاره في إرادة شخص واحد، خصوصاً أن ثمة علامات شك بخصوص شرعيته، وطريقته بالحكم، إذ إنه كسر قبله، أو قوَّض مفهوم "الجمهورية".
الفكرة هنا أن تلك النظم التسلطية هي المسؤولة عن انهيار الدولة أو "الجمهورية"، التي أضحت بمثابة جملَكية، أي كجمهورية وراثية، لا تختلف عن النظم الملكية المستبدة، وهي أيضاً التي فتحت الأبواب على مصاريعها للتدخلات الخارجية، وضمنه انتهاك سيادتها، لأنها هي أصلاً انتهكت سيادة مواطنيها.
وهنا يجدر التنويه بأننا لا نتحدث عن الديمقراطية، وإنما فقط عن دولة مؤسسات وقانون، دولة تفصل بين السلطات، دولة مواطنين أحرار ومتساوين، دولة جمهورية، لا أكثر ولا أقل.
الآن، متى سيدخل العالم العربي هذا الاستحقاق؟ أو متى سنكون في دولة مؤسسات وقانون ومواطنين حقاً؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.