من المسائل المهمة التي يجب الوعي بها، وخصوصاً من الذين يحملون عبء الدعوة إلى الإسلام؛ أن هذا الدين جاء لإصلاح الدنيا، كما أرادها الله، في جميع مجالاتها. فمفهوم الدين يشمل كل ما يندرج تحت مفاهيم الإيمان والإسلام والإحسان، ثم يمتد ليشمل كل ما يندرج تحت الشِّرعة والمنهاج، ثم يتجاوز ذلك إلى بعض لوازمه ليشمل فقه التدين والالتزام بالدين، وما يترتب على ذلك من حساب وجزاء، ومن أهم خصائص الإسلام التي نحتاج إلى الوعي بها لنستحضر ما غاب عن خطابنا الإسلامي من أبعاد، خاصية الشمول.
ومعناه أن الإسلام قد بيّن التصور السليم للحقائق الأساسية، وعناصر العقيدة، ودعائم الشريعة، ومنهج الفكر، ومنهج الحياة المنبثق عن العقيدة، والتصور ومنهج البحث عن الحقائق والتعامل معها، كذلك تناول القرآن سائر أوجه النشاط الإنساني من عبادات ومعاملات، واعتبر كل ممارسات الإنسان المنبثقة عن الوحي عبادة حتى اللقمة يضعها الرجل في فم امرأته. فالشمول منهج رباني شامل للحياة كلها لا شمول التقييد والتعطيل.
وأما صفة العموم فهي تشمل الزمان والمكان والبشر كافة، فالرسالة لا تستهدف قوماً محددين، بل هي نداء إلى البشرية كلها، إذ إن البشر في إطار المنهج الإسلامي وحدة واحدة مع الاعتراف بتنوع الأجناس والأنواع، وكما بيّن الإمام الشافعي (204هـ) في كتابه الأصولي الشهير "الرسالة"، أن رسالة الإسلام تدرّجت في خطابها من عشيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أن أصبحت خطاباً عاماً للبشرية كلها.
والغائيّة إحدى الخصائص المهمة، وهي تعني أن لكل موجود غاية وله دور يؤديه، وليس في الكون ما يحدث بطريق المصادفة، أو عن غير حكمة، أو علة، أو دور يؤديه، وهذا الفكر يعتمد التعليل المنهجي المنطقي الذي يؤدي إلى اكتشاف العلاقات بين الظواهر والأشياء.
والعالمية خاصية شديدة الأهمية، كما أن إدراكها وفهمها في هذه المرحلة من تاريخ البشر بالغ الخطر وله كبير الأثر، فهي دعوة لتحقيق غايات إنسانية مشتركة بين البشر جميعاً تتلخص في إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وهذا خطاب متجرد عن أية مكاسب قومية أو ذاتية، كما أن هذه العالمية قد نسخت الهيمنة الإغريقية، والرومانية، والغربية المعاصرة.
فالإسلام جاء محرراً للشعوب، كما أن عقيدته ليس من شأنها الاستعلاء، والنسق الحضاري الإسلامي لا يستبعد شعوب المناطق المفتوحة، بينما النسق الحضاري لأي من (الإغريقية، والرومانية، والغربية المعاصرة) يستند إلى الصراع، والاستحواذ، والاستلاب بالقوة القاهرة.
إن عالمية الإسلام أعدها العليم الخبير للعالم كله، والعالم يحتاج إليها للخروج من أزماته السياسية والاقتصادية والفكرية والبيئية، ويجب على من يُقدِّم هذا الخطاب أن يوجهه إلى الحضارة المهيمنة على السلوك البشري اجتماعياً، وثقافياً، وأخلاقياً، ففيه خلاص أمة الإسلام والبشرية في آن واحد، وهذه العالمية حتمية الوقوع وعلينا أن نبدأ العمل لها من الآن التزاماً بمسؤولية الخلافة ومسؤولية الشهادة.
إن المشوار ليس سهلاً لأن بعض الغرب يعاني من مشكلات جوهرية تؤذن بانهياره، وخصوصاً الانهيار الأخلاقي، وعلى الرغم من الأزمات التي يعانيها سيقاوم بشدة أي إصلاح قادم إليه من الإسلام والمسلمين بصفة خاصة، فلديه ذاكرة مشحونة بكل ما هو سلبي عن الإسلام والمسلمين، كما أن نسق حضارته لا يتقبل دعوات أخلاقية تخل بنسقه المهيمن، وعلى الرغم من ذلك فإنه لا تزال هناك بعض المسالك المفتوحة، ومنها الأزمة الحادة التي تعيشها الحضارة الغربية نتيجة التفكيك التحليلي والعجز عن التركيب.
ونحن كمسلمين وحدنا في العالم المعاصر نمتلك بالقرآن القدرة على التركيب عبر المنهج المعرفي القرآني، ومن ثمَّ فقد وجب أن نمنح كل الطاقات الممكنة لحركة أسلمة المعرفة في مجالات العلوم الطبيعية، وإعادة بناء العلوم الاجتماعية والإنسانية، وهذا سوف يفتح الطريق أمامنا للوصول إلى الملأ الغربي والنخبة الغربية.
ومن ثمَّ على الحركات الإسلامية المعاصرة الوعي بطبيعة الأزمة العالمية، وفهم خصائص الواقع والعوامل الفاعلة في تغييره، وذلك بغرض المعالجة بمنهج كلي بعيد عن الأحادية والجزئية والقصور.
ومن تلك الأبعاد: إدراك أن عالمية الأزمة تستدعي عالمية الحل، فبحكم التداخل المعاصر بين الأمم لم تعد المتغيرات محلية، فكل نموذج معرفي قابل لأن يعمم على الآخر وهو ما يطلق عليه (الغزو الفكري)، وبخاصة حين نكون في موضع الضعف.
ولذلك ظهر فكر المقاربات والمقارنات نتيجة طبيعية لهذا الغزو الفكري، إذ ينشأ لدى الأمم إحدى الحالتين، الحالة الأولى؛ وهي قابلية الانتماء للمنتصر، وتلك يتبعها نشأة فكر المقاربات، حيث تنزع الأمة المغلوبة إلى البحث عن صلات قربى مع فكر الغالب، مثل المقاربة بين الديمقراطية الغربية والشورى في الإسلام، متناسين فوارق النموذج الوافد عن النموذج الذي نؤمن به.
أما الحالة الثانية؛ فهي أن تتولد لدينا حالات الرفض السلبي، وذلك عبر الاكتفاء بالمقارنة بين ما لدينا وما لديهم فنبالغ في تمجيد ما لدينا، وهذا الأسلوب لم يبلغ حد القوة والقدرة على تجاوز أزماتنا، فالقضية إذن معقدة ومركبة تتناول مناهج المعرفة وتتجاوز المحلية إلى العالمية.
وهناك حاجة ماسة إلى الأخذ بالمنهجية التي تكون قادرة على مستوى عالمي، ولا يكون من أهدافها الاقتصار على المحافظة على ظاهر ما لدينا، ولكن يجب أن تتجه الجهود إلى البعد المنهجي لتقاس الحاجة والإنجاز، ولتكتشف الأبعاد الغائبة، وليتم تفعيل العقيدة والشريعة والقيم والمقاصد، كذلك يجب توضيح ما يعنيه مصطلح (ما صلح به أول هذه الأمة) وهي الجملة التي يُكثر الدعاة من ترديدها.
وأشار الدكتور العلواني إلى أنه لا يمكن أن يكون وصول الإسلاميين إلى السلطة وحده كافياً لحل مشكلات هذه الأمة المتراكمة، فأقصى ما يمكن أن يحدث وقتها هو تطبيق ما لدينا من تراث فقهي على الناس، وهو الذي كان مطبقاً قبل سقوط الخلافة الإسلامية، ولم يحمها مما صارت إليه، ولم تحل سائر المشكلات.
فلأمتنا مقومات أساسية لا بد من أخذها بعين الاعتبار عندما نحاول معرفة الأبعاد الغائبة عن حركات الإحياء الإسلامي من منطلق إسلامي، ومن ثمَّ وجب تلافي الأخطاء التطبيقية السلوكية، وذلك عن طريق الفهم المنهجي والجمع بين القراءتين، أي الربط بين آيات الوحي، وآيات الطبيعة لاكتشاف أبعاد التفاعل للأخذ بسنن الكون ومنطق التغيرات، كذلك يجب إعادة صياغة العلوم بهدف إعادة بناء الشخصية الإسلامية عقلياً ونفسياً، والاجتهاد والعمل الجماعي.
ولعل المعهد العالمي للفكر الإسلامي الذي أسسه الدكتور طه جابر العلواني، يرحمه الله، عام 1981 في الولايات المتحدة الأمريكية كان له الدور الكبير في صياغة المعارف والعلوم بشكل يتناسب مع طبيعة الواقع المعاش. وهو مؤسسة فكرية علمية مستقلة، غير ربحية، تعمل في ميدان الإصلاح الفكري والمعرفي، باعتبار ذلك واحداً من منطلقات المشروع الحضاري الإسلامي المعاصر، ويوجه خطابه إلى العلماء والمفكرين والباحثين وجمهور المثقفين للعمل على إصلاح الفكر، والمنهجية الإسلامية على مستوى الأمة متجاوزاً حدود اللغة والإقليم.
ومن المهم الاستفادة بهذه الجهود والبناء عليها، حتى تستطيع الحركات الإسلامية المعاصرة، مواجهة التحديات، وإزالة العقبات التي تعترض طريق الإصلاح. وهذا لن يتأتى إلا بالإعداد الجيد للأفراد، والاستفادة من كل الطاقات والإمكانيات المتاحة، وتوظيفها بالشكل الأمثل.
أقول: إن التجربة المصرية بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011 تمثل دليلاً واضحاً على تعجُّل الإسلاميين للوصول إلى أعلى سلطة تنفيذية في دولة تعاني من مشاكل كثيرة لعشرات السنين، وتصور الإخوان وقتها أنهم يستطيعون التعامل مع الواقع المحلي والإقليمي والدولي من خلال صندوق الانتخابات فقط، مع افتقارهم للقوة الصُلبة المتمثلة في الإعلام، والقضاء، والشرطة، والجيش، والفن، وأصحاب المصالح والنفوذ… إلخ!
ومن ثمَّ بعد كل هذه الانعطافات المؤلمة في مسارات المشروع الإسلامي، على الحركات الإسلامية المسارعة إلى إجراء مراجعات كلية في فهمها السنني، ومحدداتها الفكرية وخياراتها السياسية؛ تجويداً لأدائها الاستراتيجي وتحديثاً لمقارباتها الواقعية، وإن لم تفعل ستكون التضحيات كبيرة ومؤلمة، وتستمر حالة البكاء على اللبن المسكوب، ولات حين مندم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.