لأن الجميع ينتمي للجميع فلا داعي لأن تطارد أو أن تبذل أي جهد للحصول على ما تريد أو تتمنى، فكل ما تريده يمكنك الحصول عليه، وهنا في ذلك العالم الجديد في معمل تفريخ الأجنة يتم إنتاج وتهيئة الجميع وفقاً لمهامهم القادمة في المستقبل.
تلك هي الحبكة الرئيسية لرواية عالم جديد شجاع للكاتب الإنجليزي ألدوس هكسلي؛ عالم لا يتعلق فيه الإنسان بأشياء أو بأشخاص لأن التعلق يعني عدم مقدرته على الاستغناء وذلك تحديداً هو الهدف الرئيسي لذلك العالم؛ ألّا تتمنى وألّا تتعلق فتعيش في عالم تسوده المتع والعدالة ويعمه السلام.
في ذلك العالم يأتي الإنسان نتيجة تخصيب بويضة مجمدة مسبقاً في المعامل وبعد إجراء العديد من التعديلات يتم تقسيم تلك البويضة لكي تنتج ما يقارب من الألف توأم، فحتماً عندما تجد نفسك واحداً من ألف متشابهين لن تفكر أبداً في أن تخرج عن القطيع.
أنت مجرد بويضة تم تخصيبها، ثم تم تكييفك عبر التعديلات الجينية منذ كنت جنيناً طبقاً لمهامك المستقبلية ومستواك الاجتماعي. حيث تم تقسيم المجتمع إلى خمس فئات؛ فإذا قُرر لك أن تكون من طبقة الألفا فأنت محظوظ حيث سيتم تطعيمك ضد جميع الأمراض المستقبلية، وسيتم ضخ المزيد من الأوكسجين لك حتى تكون من الأذكياء وسيتم تشغيل الموسيقى الخافتة اليومية وتوفير العطر الدائم الفواح، ستكون سعيد الحظ لأن تلك المقويات التي تم حقنها لك جعلتك أكثر طولاً وأكثر جمالاً من أي فئة اخرى فكل المميزات تم إعطاؤها لك أنت فقط كي تولد وأنت من صفوة المجتمع.
أما إذا كنت سيئ الحظ ستكون من طبقة الأبسيلون وهي طبقة الخدم فقد ينقطع عنك الأوكسجين وأنت جنين لفترة زمنية قادرة على أن تصيبك بالغباء لتكون إنساناً لا يفكر أبداً ولا ينفذ أي شيء في حياته سوى الأوامر الصادرة له، ولن تتمتع أبداً بأي قدر من الجمال، ولكن ذلك المجتمع يعتمد على التوازن، لذلك فلا بد أن تكون هناك الفئة المتوسطة التي تعيش لتعمل في مهام عادية لتسيير المجتمع بصورة عادلة وصحية.
تعتبر رواية "عالم جديد وشجاع" من أهم روايات الأدب الدستوبي (أدب المدينة الفاسدة أو ما يسمى عالم الواقع المرير، وهو عالم فاسد وخيالي وغير مرغوب فيه)، كُتبت عام 1931 لتتنبأ بما ستحمله الأعوام القادمة من حكومات متعنتة ومسيطرة وارتفاع الاستهلاك بطرق جنونية، والمناداة بالعلاقات الغريبة وغير الطبيعية تحت مسمى حرية العلاقات.
الجميع ينتمي للجميع فلا يمكنك أن تكون بمفردك ولا يمكنك أن تغير من طريقة تفكيرك ولا يمكنك أن تعترض، فإذا اشتدت عليك المتاعب أو واجهت أي صعوبات فها هي بضعة غرامات من السوما (دواء مخدر يتم توزيعه يومياً عليهم) لتأخذك في رحلات تفصلك عن عالمك الواقعي وتذهب بك إلى العالم الخيالي الذي تحب أن تعيش به؛ إن السوما أفضل من أي متاعب أو أي آلام قد تقابلها.
وتصل الرواية لقمة الحبكة عندما يأتي المتحكم الرئيسي للمجتمع ويعرض لماذا يعتبر التاريخ والأدب والدين مواضيع ممنوع الكلام عنها أو الإشارة إليها في ذلك العالم، حيث إن الناس في تغيير مستمر ولا حاجة لديهم في أن يتم توجيههم، معترضاً على أنه في العالم القديم عندما يتقدم الإنسان بالعمر ويحس بالضعف والفتور والقلق يبدأ التمسك بأفكار ومعتقدات قديمة ويصبح قادراً على التأمل والتفكر دون إشكاليات أو ملهيات ويصبح في حاجة إلى الاعتماد على شيء ثابت لا يمكن أن يخدعه، عندئذ تشعر روحه بوجود الرب من وراء الغمام وذلك غير مرغوب فيه في ذلك العالم، حيث إنهم لا يتركون الفرد أبداً وحيداً، لقد تم غرس كره الوحدة فيهم منذ كانوا صغاراً وتم تنظيم حياتهم على نحو يجعل من المستحيل أن يجدوا وقتاً للتفكير؛ فالكل دائماً مجتمع ولا وقت للتفكير أو الرغبة في البحث عن معتقدات أو إيمانيات؛ هم في عالم مثالي مليء بالتفوق والطب والسعادة العلمية.
إن الرغبة في عيش ذلك العالم المثالي لا تتطلب من الفرد شيئاً سوى التخلي عن حريته، فالمرء لا يتخذ لنفسه أية قرارات، ولكنه يسير في خط مرسوم له منذ كان جنيناً داخل أنبوبة التفريخ؛ فعلى هؤلاء الذين يرغبون في قراءة الأدب القديم أو البحث في تاريخ الأمم السابقة أو التمسك بإيمانياتهم أو معتقداتهم أن يتمتعوا بما يسمى العيش بحرية، في أن ينفوا خارج ذلك العالم الجديد فعليك أن تختار ما بين الحرية والرخاء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.