"شجرتي شجرة البرتقال الرائعة
إن الفرح شمس تشعّ داخل القلب، وإن الشمس تشعّ على كل شيء بالسعادة. وإذا صحّ هذا فإنّ شمسي الداخلية كانت تُجمّل كل شيء..".
جاءت تلك العبارة الرائعة والمنيرة على لسان "زيزا"، بطل رواية شجرتي شجرة البرتقال الرائعة، للكاتب البرازيلي خوسيه ماورو دي فاسكونسيلوس.
ولد زيزا لأسرة فقيرة للغاية، يتلقى الضرب من كل من يراه أو يقابله، وذلك لأن زيزا طفل مسكون بالشياطين كما يقول عنه أهله وكل سكان الحارة. فياللويل إذا مر زيزا من أي مكان، حتماً سوف يترك كارثة خلفه.
لكنه في الحقيقة لم يكن أبداً طفلاً مسكوناً، بل كان طفلاً ذكياً نابغاً يمتلك مهارات تفوق سنه، ويمتلك خيالاً ليس له حدود، ولكن لا أحد يشعر به، فهو الطفل الشقي الذي لا يطيقه أحد ولا يرغب أحد أبداً في صحبته.
كان زيزا طفلاً طيباً وحساساً للغاية، ولكن مشكلته الكبرى أنه يفتقد الحنان؛ فكل من حوله يعاني في عالمه الخاص، الأب فقير معدم وسكير يصب غضبه دوماً على زوجته وأبنائه، وخصوصاً ابنه الصغير زيزا، فلا يتلقى منه إلا الضرب المبرح طوال الوقت. والأم مسكينة ليس لها حيلة في أي تصرف يخص شؤون الأسرة، ولا تستطيع الدفاع عن ابنها. والإخوة كلٌّ في حاله، ولا يملك أحدٌ منهم أي وقت للاهتمام بزيزا، وهو بدوره لا يشعر منهم بالمعنى الحقيقي للحب أو للحنان، فكان ذلك المحفز الرئيسي له لارتكاب المزيد والمزيد من الكوارث، حتى استحق لقب الشيطان الصغير عن جدارة.
ولأن الحياة ليس لها معنى من دون الحنان، ولم يمتلك زيزا المقدرة على التعبير عن مكنونات نفسه وأحلامه، آلَ به الحال إلى أن يصادق جذع شجرة برتقال، عندما أقنعته أخته الكبرى أن الشجر يسمع ويشعر مثل الإنسان. فصادق الطفل البريء جذع الشجرة العجوز المقطوعة، وظل يتحدث إليها يومياً، يخبرها بكل أفكاره منتظراً منها أن تكبر وتثمر أوراقها.
تمر الأيام ويقع حظ زيزا الطيب في أن يتعرف على بورتوجا، الرجل المسن صاحب أجمل سيارة في القرية. يرى بورتوجا الجانب الطيب في زيزا فيتحدث معه ويصادقه، ويسمح له بركوب سيارته التي تخطف أنظار البلدة كلها، حتى يشعر زيزا أنه ملك متوج، فيظهر معدن زيزا الحنون الطيب الذي لا يسعك سوى أن تقع في حبه وتشفق عليه وتبكي معه كأنك تبكي طفلك الصغير الموجود داخلك.
فكم طفلاً تم وصفه بأنه شقي أو عنيد أو عصبي، والعديد من الأحكام التي صدرت ضده، حتى تبناها الجميع وصدقوها دون أن يتأكدوا من مدى صحتها ودون أن يبذلوا أي مجهود يذكر كي يروا جانبه الطيب. كم طفلاً كبر وهو مقتنع تمام الاقتناع أنه شخص لا تطاق عشرته نتيجة لفكرة زرعها فيه آباؤه عند الصغر.
كم طفلاً افتقد الحنان والاهتمام والحبَّ فقام بارتكاب المصائب بسبب رغبة لا شعورية منه في لفت الانتباه له، وكأنه يصرخ قائلاً: "أنا هنا" "أنا لي احتياجات"، "أريد أن أشعر بالحب"، "أريد منكم الاهتمام"، "أرجو أن تروني بعين القبول".
عندما تحدث زيزا مع صديقه العجوز بورتوجا حكى له أنه يريد أن يقتل أباه، ولكن قتلاً رحيماً، رحيماً لأبيه ومؤلماً للغاية على نفسه، فذلك الطفل الصغير يؤمن بالحب لدرجة أنه قرر أن يقتل والده بأن يتوقف عن حبه، وذلك سيكون السبب في موت أبيه بداخله.
كان بورتوجا العوض الإلهي لزيزا فأحبه حباً قوياً كما أنه أهداه أكبر هدية تقدم لطفل صغير، أهدى له مساحة كبيرة للتحدث.
فكان زيزا يتحدث عن أفكاره دون توقف، أحاديث في كل ما يشغل باله، ومن خلالها تعلم زيزا أن يتعرف على نفسه ومشاعره وأفكاره، ومن ثم كيفية التعبير عن متطلباته ومشاعره بحرية دون صراع داخلي معها لكبتها، تعلَّمَ كيفية أن يحب وأن يتقبل الحب، تعلم أن قلب الإنسان كبير جداً لاحتواء كلّ من يحب، وأنه منذ أن اكتشف معنى الحنان حقاً قرر أن يغمر بحنانه كل ما يحب.
وظهر ذلك التقدم في شخصية الطفل البريء، عندما قال لصديقه العجوز: "أريد أن أبقى دائماً بالقرب منك لأنك الإنسان الأكثر طيبة في العالم، لا أُوبخ حين أكون بقربك، وأشعر أن شعاعاً من الشمس يغمر قلبي بالسعادة".
إن أكثر ما يبحث عنه الطفل في عيون من حوله هو القبول، وأكثر ما يساعد على أن يكون ذا صحة نفسية سوية هو أن يشعر بالأمان، فكم من طفل افتقد القبول في صغره فكبر كارها لنفسه مخرباً لحياته، ولا يستطيع أن يحب نفسه من أجل أن يعطي الحب للآخرين، وكم من طفل تألم لافتقاده الأمان وعاش دوماً تحت تأثير الشعور بالخطر والتهديد فكبر ليجد نفسه نسخة مشوهة من الشخص الذي أفسد حياته في الصغر. وعلى الجانب الآخر، فعندما يكبر الطفل وداخله مشبع بالقبول والأمان يصبح ذلك صحياً، ويكبر ليكون بالغاً راشداً قادراً على أن يدع أشعة الشمس تغمر قلبه ليبدأ هو في إنارة قلوب من حوله.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.