ينقسم تاريخ الخلافة العباسية إلى عصرين، الأول امتاز كونه عصر القوة وسُمِّي بالعصر الذهبي، والثاني كان عصر ضعف وسقوط الخلفاء في أيدي الوزراء حتّى استقرّ الأمر لقادة الجيش، الذين كان أغلبهم من الجنود الأتراك.
بدأ العصر العباسي الأول بالخليفة أبو العباس السفاح عام 750م، أول الخلفاء العباسيين، وانتهى بالخليفة الواثق بالله في عام 847م، إلا أن أسباب انتهاء هذا العصر بدأت في عصر الخليفة المعتصم بالله، الذي سبق الخليفة الواثق بالله، آخر خلفاء العصر الأول.
تميز العنصر العربي أثناء الخلافة الأموية على باقي الأعراق، واقتصرت الطبقة الحاكمة عليه، بينما تميزت الخلافة العباسية بدعواها لإشراك الأعراق الأخرى في الإدارة وشؤون الحكم، إلّا أنّ العصر العباسي الأوّل ظلّ عربياً بشكلٍ ما، ما أدى لنشوء حركات وتمردات وثورات انفصالية على أساس عرقي أو طائفي/عرقي، ومن ضمنها ثورة الخرمية بقيادة بابك الخرمي. طبقاً لما ذكره حسين قاسم في كتابه "البابكية.. الانتفاضة ضد الخلافة العباسية".
الخرمية المنبثقة عن المزدكية
كانت من بين تلك الثورات والتمردات ما عُرفت بالحركة الخرمية، التي ثارت على الخلافة العباسية في مناطق أذربيجان وشرق أرمينيا والجزء الشمالي الغربي من إيران، وكانت هذه الحركة وليدة مجموعة من المعتقدات والأفكار.
وتُعد الخرمية فرقة دينية تطورت بشكل أساسي عن المزدكية، وهي فلسفة دينية قامت في بلاد فارس على يد الكاهن الزرادشتي مزدك، الذي حارب الديانة الزرادشتية الأرستقراطية المنتشرة في بلاد فارس في القرن السادس الميلادي، والتي تنادي بمشاركة جميع الناس في الأموال والنساء، وهو ما اعتبره حسين قاسم في كتابة بداية الاشتراكية، كما اعتُبرت الحركة الخرمية عند كثير من المؤرخين حركةً "إباحية".
أمَّا عن الخرمية فكانت تؤمن بصراع الخير (إله النور) مع إله الشر (إله الظلمة)، وكانت تدعو لثورة الفلاحين، وتعميم الاستفادة من المنافع العامة ومقاومة السلطة ورفض الضرائب. أمّا عن سبب تسمية الفرقة بـ"الخرمية"، فيورد لنا ابن الأثير في كتابه الكامل أنّ "الخرم هو الفرج، وهو ما كان يطلقه المجوس على طقوس ديانتهم، إذ كان الرجال ينكحون أقاربهم مثل أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم، ولهذا سُميت الخرمية بدين الفرج".
ظهرت الخرمية، وفقاً لما أورده حسين قاسم، في أواخر العهد الأموي عام 737م، وازداد نشاط الخرمية وتوسَّعت في العصر العباسي الأول، ما أعطى للثورات ضد الخلافة العباسية صبغةً أيديولوجية، ويقول حسين قاسم إنه كما ناصبت الخرمية العداء للزرادشتية ناصبت الحركة الخرمية العداء للإسلام السني، باعتباره يمثل عقيدة رجال السلطة، فكان اعتناق الثائرين للخرمية بمثابة معارضة ثورية!
تمرُّدات متوالية
مع وصول أبي جعفر المنصور، ثاني الخلفاء العباسيين لكرسيّ الحكم، قام الفلاحون في بلاد خراسان وشمال وغرب إيران بثورة تحت قيادة سنباذ عام 754. ظلت تلك الثورة مستمرة طيلة 70 يوماً، إلا أن الخليفة أرسل جيشاً أخمدها، وبعد 12 عاماً عادت الثورة للاشتعال من جديد في خراسان، ولكن هذه المرة تحت قيادة استاذسيس الذي جمع تحت يده 300 ألف مقاتل، إلا أن جيش الخلافة بقيادة خازم بن خزيمة ومعه 20 ألف مقاتل استطاع إخماد ذلك التحرك المسلح، وقتل وأسر الكثير منهم واستطاع إعدام استاذسيس.
ورغم أنّ رقم مقاتلي أستاذسيس مبالغ فيه حقاً (300 الف) فإنّ هذا ما ذكره المقدسي في كتابه البدء والتاريخ، وهو ما اعتمده حسين قاسم في كتابه عن بابك الخرمي. وربما المقصود بالرقم هم الأتباع وليس الجيش.
وفي زمن الخليفة المهدي ابن أبي جعفر المنصور في عام 778؛ انتفض أهل جرجان المعروفون بالمحمرة، وذلك لارتدائهم للملابس الحمراء التي ميزتهم، وكان ذلك تحت قيادة شخص يدعى عبدالقاهر، الذي استطاع أن يستقل بجرجان عن جسد الخلافة، فأمر الخليفة المهدي قائد الجيش "عمرو بن العلاء" بإعادة جرجان إلى الحاضنة العباسية، فدخلها وقتل عبدالقاهر، وبذلك خمدت تلك الحركة.
أما في أيام هارون الرشيد -ابن الخليفة المهدي- فقد ثار الخرميون من جديد في عام 807 في أذربيجان، فأرسل الخليفة عبدالله بن مالك ومعه 10 آلاف فارس فأخمد حركتهم وساق الأسرى إلى الخليفة.
ومن الجدير بالذكر أن كل هذه المحاولات كانت من قبل أتباع الخرمية، مجسِّدين رحلتهم الطويلة في معاداة الدولة العباسية، والذين لم يستطيعوا من خلالها تحقيق ما طمحوا إليه من تكوين دولة لهم، حتّى جاء بابك الخرمي.
ظهور بابك وسيطرته على أذربيجان
في كتاب "البدء والتاريخ" يحكي لنا المقدسي أنه ومع مرور الأيام واعتلاء المأمون بن هارون الرشيد مقام الخلافة، كان هناك في عصره رئيسان يتصارعان على قيادة طائفة الخرمية، أحدهم يدعى عمران والثاني جاويذان.
كان جاويذان يعمل على حشد الأتباع عندما اكتشف شخصاً يدعى بابك، فقرّبه إليه وجعله من رجاله لما رأى فيه من صفاتٍ مميزة، وقربه منه حتى أصبح على علم بأسراره، بل وأصبح مقرباً من زوجته كذلك.. وفي الحرب التي قامت بين جاويذان وعمران، أصيب جاويذان بجروحٍ بليغة ومات على إثرها.
بعدها، قالت امرأة جاويذان إنه استخلف بابك من بعده، وادّعت أنّ روح بابك تحوَّلت لتصبح روح جاويذان، وأن النصر والظفر سيكون على يد هذا الرجل، فصدّق أتابع جاويذان الخرميون ما قالته امرأته.
أصبح بذلك بابك قائداً عليهم، فعمل على حشد الجنود والمناصرين وقاد حركة تقتيل لكل من خالفه صغيراً كان أو كبيراً، بل وأمر بالتمثيل بجُثث جنود الدولة العباسية الذين ينتشرون في أذربيجان.
واستكمالاً لفرض سيطرته على كامل أذربيجان عمل بابك ومن معه على دكّ قلاع وحصون العباسيين في أذربيجان، وفي المقابل سارع هو إلى إنشاء القلاع والحصون المنيعة التي تضمن له ملاذاً قوياً يستطيع اللجوء إليه في حالة مهاجمة العباسيين له.
بعد ذلك أغار بابك الخرمي على قوافل تموين الجيش العباسي، وقاد عدة حملات مفاجئة لخلق الذعر والارتباك بين صفوف الجيش العباسي، ما أدى إلى هلاك الكثير من العباسيين على الأراضي الأذربيجانية.
وفي لمساته الأخيره للإجهاز على القوات العباسية في أذربيجان، تحالف بابك مع إمبراطور البيزنطيين ميخائيل الثاني، الذي كان يهاجم هو ومن بعده ابنه تيوفيل الثغور الإسلامية، مساعدةً منهم لحركة بابك ونكاية في الدولة العباسية.
وبذلك ظل بابك يدخل في صراعات مع الدولة العباسية على مدار 20 عاماً، بدأت عام 813 وانتهت عام 833. وطوال كل تلك السنين لم يُكتَب النصر للعباسيين على بابك الخرمي.
ومع قدوم الخليفة المعتصم بالله -الخليفة قبل الأخير في العصر العباسي الأول- عام 833، وبناءً على وصية أخيه الخليفة المأمون بضرورة وأولوية إخماد تمرُّد الخُرميين في أذربيجان، شكَّل المعتصم قوات مدربة ومتمرسة في قتال الجبال، تحت إمرة قائدٍ يدعى الأفشين.
وفي حركةٍ لإضعاف جبهة بابك، أمر المعتصم بالمبادرة لضرب منطقة همذان المحاذية لمنطقة نفوذ بابك، والتي ينتشر فيها أتباع الخرمية، وذلك قبل التوجه لبابك، وانتصر الجيش العباسي فيها، ما أضعف من قوة بابك كثيراً، وانحسرت بذلك مواقع الخرميين واقتصرت على أذربيجان.
الخليفة المعتصم والقضاء على ثورة بابك الخرمي
وصل الأفشين إلى أذربيجان عام 835، وكانت خطته تعتمد على إطالة مدة الحرب وتضييق الخناق تدريجياً على بابك ومحاصرته في عاصمته: مدينة البذ. كما تعتمد خطّته كذلك على الإجهاز على قادة الخرميين وأعوان بابك المهمين، ليصبح بابك بلا قادة يعتمد عليهم.
كما عمل أيضاً على ترميم بعض الحصون التي دُمرت من قبل بابك، لكي تؤمِّن له ملاذاً آمناً إذا هاجمته قوات بابك بشكلٍ مفاجئ، وكذلك لتكون نقطة اتصالٍ تمدُّ الجيش بالمؤن والعتاد، كما أمر الأفشين باستيقاظ نصف الجيش ليلاً تحسُّباً لأي هجماتٍ محتملة من بابك في الليل، وبذلك قطع الأفشين على بابك أي فرصة للهجوم المباغت.
كما عمل الأفشين على كشف واستمالة جواسيس بابك لإمداده بالمعلومات المهمة، وهو ما مكَّنه من اغتيال طرخان أهم قادة جيش بابك.
وفي محاولةٍ منه لتخفيف الضغط عليه، طلب بابك الخرمي، من تيوفيل، إمبراطور البيزنطيين، مهاجمة حدود الدولة العباسية المكشوفة، عملاً بما كان بينهما من اتفاق، إلا أن الظروف السياسية لم تكن مواتية وخذله الإمبراطور ورفض.
دارت من عام 835 إلى عام 837 عدة معارك بين الأفشين وبابك، كان النصر فيها حليفاً للعباسيين مثل معركة أرشق ومعركة نهر كلان روذ. ويروي حسين قاسم فصل هذه المعركة الأخير، والذي بدأ بزحف الأفشين على البذ، مركز بابك، إذ أقدم الأفشين على فتح البذ دافعاً بكلّ جيشه وقواته الاحتياطية في قلب المعركة، معتقداً أنه لن ينتصر إلا أن يزج بكل قواته.
سعى الجنود البابكيون لصدّ هجوم الجيش العباسي، ولكن دون جدوى، حتى صار انهيار المدينة وشيكاً، حتى قصد بابك الأفشين للتفاوض معه على الصلح وطلب الأمان.
وينقل الطبري -في كتابه تاريخ الرسل والملوك- الحوار الذي دار بين الأفشين وبابك، إذ قال الأفشين: "قد عرضت عليك ذلك من قبل، وهو لك مبذول متى شئت"، فقال بابك: "قد شئت الآن على أن تؤجلني أجلاً أحمل فيه عيالي وأتجهز"، فرد عليه الأفشين: "إني قد نصحتك غير مرة فلم تقبل نصيحتي، وأنا أنصحك الساعة خروجك اليوم في الأمان خير من الغد"، فقال بابك: "قد قبلت".
إلا أنّ الأخبار قد جاءت الأفشين في ذلك التوقيت بأنّ قوات الفراغنة، وهي أحد تشكيلات الجيش العباسي، قد دخلت مدينة البذ وتمركزوا أمام قصر بابك ملوِّحين بالأعلام، فأمر الأفشين بدخول باقي قوات الجيش إلى البذ، وكانت هناك حامية بابكية قد هاجمتهم في هذا الموقف، فانقض عليهم الأفشين وقتل كثيراً منهم، وأسر بعض من عثروا عليهم.
لكنّ بابك الخرمي كان قد تمكن من الإفلات والهرب ببعضٍ من أفراد عائلته والمقربين له خارج المدينة، وذهب إلى بعض أراضي أرمينيا، فأرسل الأفشين إلى أمراء أرمينيا يحذرهم من مساعدة بابك، وهكذا استطاع أحد الأمراء واسمه سهل بن سنباط أن يخدع بابك الخرمي، ويوهمه بأنّه مؤيدٌ له وخالف العباسيين، حتّى سلّمه في النهاية للأفشين.
أُسر بابك هو وأخوه عبدالله، واقتيدا إلى مدينة سامرّاء، حيث الخليفة المعتصم، وقُتلا بعد ذلك. وبذلك سيطر الجيش العباسي من جديد على أذربيجان، وانتهت بذلك أسطورة بابك الخرمي، التي استعصت على الدولة العباسية 20 عاماً، وذلك في شهر رمضان عام 837م.