أريدك أن تتخيل معي سحابة من الضوء بين مساحتين من الظلام، شريط من النور بين ضفتين من العتمة، كلمة مُعرَّفة بين مجهولين، الحياة فسحة من الزمن، بين عالمين من العدم، وما يفعله الإيمان بالله هو أنه يطمئنك إلى أن العوالم الأخرى ليست مخيفة، كما يظن البعض، ربما كانت أكثر رحمة وأكرم نُزُلاً.
جئنا من مجهول لا نذكر منه شيئاً، ندخل أنبوب الضوء لنمر منه إلى عالم آخر لا نعرف عنه شيئاً، يتفاوت إحساسنا بالزمن على مدار رحلتنا المحتومة، فيومٌ يمر كالنسمة لا نشعر بها، ويوم ثقيل كالدهر لا يتزعزع، يوم يوهمك أن الحياة طويلة مازالت تحمل الكثير، ويوم يقطع عنك الأمل في غده.
ومن حكمة الله البالغة أن جعل للأيام كرامات وأوزاناً مختلفة حتى لا ينقطع أمل ابن آدم من الدنيا ويظل يتطلع لفرصة أخرى في الحياة مهما ضاقت به السبل، ومن أعظم أيام الله تشريفاً وتكريماً ومهابةً العشر الأواخر من رمضان، هي ليالٍ ذات قدر تنزل فيها كتاب ذو قدر على نبي ذي قدر، فاجتمعت أسباب التشريف واكتملت أنوار الكرامة والمنزِلة العظيمة.
وقد أسهب العلماء في شرح أفضالها والعبادات المستحبة فيها وأنت تعرفها جيداً، لأنك كل عام تضع خطة اللحاق بها وتحلم بأن تكون من أهلها.
ماذا تفعل في الأيام العشر؟
ببساطة كن النسخة الأفضل من نفسك، كل منا أعلم بنفسه، كل يعرف شيطانه ويعرف نقاط ضعفه وثغرات روحه، لا تنتظر وصفات سحرية جاهزة. العشر الأواخر فرصتك للنجاة فاجعل غريزة البقاء تدلك على باب الخروج من إعصار الدنيا الثائر، على فرصة أن تلتقي بنفسك الحقيقية التي خُلقت على الفطرة، اخلع طبقات التخفي وأسلحة الصراع وأقنعة التجمل، واترك على الباب أثقال الرزق وأدوات الاستعراض والظهور، والقيل والقال وكثرة السؤال.
العشر الأواخر كنز متاح للجميع لا يعرف ملوكاً وعبيداً، لا يحتاج واسطة وأقارب مهمين ليرشحوا اسمك في قائمة المقبولين، لا يشترط سنوات خبرة ولا سابقة أعمال ولا قائمة إنجاز، لن يطلع على حسابك البنكي ومستوى تعليمك ووجاهتك الاجتماعية.
اذهب لله بلا موعد مرتب بلا أختام ولا تصاريح ولا أحكام مسبقة، فقط توضأ على مهلٍ، وخذ معك قلبك فهو رفيق عمرك الأبدي من البداية للنهاية وفيه وزنك وقدرك وحكايتك وعليه تؤجر وتكرم وتفوز ولأن الله لا ينظر إلا إليه فكفى به منزلاً.
ستحتاج أيضاً إلى بقعة هادئة تختلي فيها بربك؛ لأن الحكايات كثيرة والأسرار غالية لا تنتهكها العيون ولا تخوض فيها الألسنة، ستحتاج أيضاً لمقدار من الصبر على نفسك، لأنها ستقاوم بشدة وستتمسك بصورتها التي تعرفها والتي اعتادت عليها، لا بأس كن رفيقاً هيناً لا تقسو عليها، فيطفئها الحزن ولا تزكيها فيعلوها الكبر. أحسن إليها بترويضك واصطبر عليها.
وأخيراً اعرف نقاط قوتك وتزود من الصالحات التي تروق لك، فقائمة الطيبات لا تنتهي، منا من يدخل على الله من باب الصلاة، ومنا من يجد قلبه على أعتاب القرآن، ومنا من يوسع من ماله على خلق الله ومنا من يحسن جبر الخواطر ومنا من لا يفتر عن ذكر الله، إنها نسختك الشخصية التي ستتعرف فيها على نفسك الجديدة، اعرف أين تكمن همتك، والله كريم لا يرد أحداً طالما اتبعت الكتاب ووافقت سنة الرسول.
أما الرسول فاجعله بين عينيك وأعد حبل الوصال الذي تقطع من غفلتك عنه، وانسج صلواتك عليه بخيوط ذهبية طرفها على لسانك وطرفها الآخر في السماء حيث الله وملائكته يصلون على النبي. لملم حروفك المبعثرة واسطرها صلاة على النبي، وامتثل راضياً لصوت ربك والمكرمين في السماوات يرددون معك، سينكشف الحجاب فضاءً واسعاً ويترصع جنبات قلبك الواهي بزخات النور، حينها استبق الباب لفسحة مسالمة خضراء واملأ من طيبها أنفاسك واغتسل بمائها البارد وستزهر روحك من جديد.
اجعل هذه العشر ميلادك السعيد، اكتب أوراق ثبوتيتك الجديدة وهويتك الطازجة والتقط صورة لابتسامتك الراضية وروحك الشفافة التي ستطل من عينيك واكتب اسمك ورسمك ومساحة قلبك الخالي، واكتب عهدك على نفسك بصفحة بيضاء خلت من أوجاع الماضي وهموم المستقبل.
وافتخر بثروتك الحقيقية، ذنوب تساقطت وأحمال ذابت وروح تعلقت من جديد بخالقها، ووداد اتصل بالسماوات، وطمأنينة لن تفرط فيها من فرط حلاوتها وسعادة لن تصفها الكلمات، ونفحات وقعت في قلبك، وإشارات ستفهمها في حينها ورسائل لن تخطئ أبداً طريقها إليك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.