لم أخل من حسد عليك فلا تُضِع سهري بتشنيع الخيال المرجف
واسأل نجوم الليل هل زار الكرى جفني؟ وكيف يزور من لم يعرف؟
أدر ذكر من أهوى ولو بملام فإن أحاديث الحبيب مدامي
كأن عذولي بالوصال مُبشري وإن كنت لم أطمع برد سلامي
طريح جوى حبٍّ جريح جوارح قريح جفون بالدوام دوامي
كثيرون هُم من يعتبرون أنّ الشاعر عمر ابن الفارض هو أحد الشعراء الذين كانوا سبباً في بروز ذروة الشعر الصوفي العربي، كيف لا وقد بقيت قصائده موضع إعجاب للعشاق إلى يومنا هذا، وموضع جدل لكثير من الشرّاح الذين لاقوا صعوبة في الوصول إلى العمق الموجود في كلمات قصائده.
كما قال عنه الكاتب جبران خليل جبران: "إنّ ابن الفارض لم يتناول من مجريات يومه كما فعل المتنبي، ولم تشغله معميات الحياة وأسرارها كما شغلت المعري، بل كان يغمض عينيه عن الدنيا ليرى ما وراء الدنيا، ويغلق أذنه عن ضجة الأرض ليسمع أغاني اللانهاية".
ابن الفارض.. حموي الأصل نشأ في القاهرة
ولد عمر ابن الفارض في القاهرة في 22 مارس/آذار عام 1181، حيث نشأ وترعرع فيها، اسمه الحقيقي هو عمر ابن أبي الحسن علي بن المرشد بن علي، كما أنّ له العديد من الألقاب منها أبوالقاسم وأبوحفص وشرف الدين وسلطان العاشقين.
والده كان فقيهاً وعالماً زاهداً ولد في حماة السوريّة لكنّه هاجر إلى القاهرة ليعمل قاضياً ومسؤولاً حكومياً وفقاً لما ذكره موقع Poetry Chaikhana.
ويقال إنّ لوالده الفضل في فرض حقوق النساء على الرجال، ومن هنا جاءته كنية الفارض، بالإضافة إلى تقلده الكثير من المناصب المرموقة، من بينها قاضي القضاة في مصر الذي رفضه خشية أن يشغله عن عبادة الله.
أما نسبه فمتصل ببني سعد وهي القبيلة التي تنتمي إليها السيدة حليمة السعدية مرضعة رسول الله محمد، صلى الله عليه وسلم.
ولد في ذروة التصوف الإسلامي
تعتبر الفترة التي عاش فيها ابن الفارض في القرن السابع الهجري فترة عرفت باسم "الحقبة الذهبية للتصوف الإسلامي" إذ يشير المؤرخون إلى أنّ هذه الحقبة شهدت ظهور العديد من أقطاب الصوفية أمثال جلال الدين الرومي، أبي حفص السهروردي وشهاب الدين السهروردي ويونس إمري وفريد الدين العطار.
صحيح أنّ ابن الفارض لم يحظَ بالشهرة الواسعة كتلك التي حظي بها جلال الدين الرومي مثلاً، ولكنّ الكثير من قصائده باتت اليوم كلمات لأغان لا تكتمل سهرات الإنشاد الصوفية دون ترديدها، ويحفظها عن ظهر قلب الكثير من الناس، مثل قصيدة "قلبي يحدثني" التي غناها الكثير من المشاهير أمثال: حليم الرومي، ريم البنا، حسن الشافعي، غالية بن علي، وغيرهم، فيما تقول القصيدة في مطلعها:
قلبي يُحَدّثني بأَنّكَ مُتْلِفِي روحي فِداكَ عرَفْتَ أمَ لم تَعْرِفِ
لم أَقْضِ حَقّ هَواكَ إن كُنتُ الذي لم أقضِ فيِه أسىً ومِثليَ مَنْ يَفي
ما لي سِوَى روحي وباذِلُ نفسِهِ في حُبّ مَن يَهْواهُ ليسَ بِمُسرِف
فلَئِنْ رَضِيتَ بها فقد أسعَفْتَني يا خَيبَة المَسْعَى إذا لم تُسْعِفِ
يا مانِعي طيبَ المَنامِ ومانِحي ثوبَ السّقامِ بِهِ ووَجْدِي المُتْلِفِ
الشاعر الوحيد الملقب بسلطان العاشقين
وقال رائد الدراسات الصوفية جوزيبي سكاتولين: "صحيح أن عمر بن الفارض قد يكون مجهولاً في الأوساط الصوفية غير العربية، لكنه واحد من أعلامها".
ونظراً لما يمتاز به من نضج إبداعي وروحي فإن ابن الفارض هو الصوفي الوحيد الذي لقب بسلطان العاشقين، مثله في الانفراد كمثل محيي الدين بن العربي الذي لقب بسلطان العارفين علماً وحكمة وتجربة استثنائية متفردة وفقاً لما ذكره موقع ثقافات.
رؤية لبائع خضار مهدت له الطريق نحو عالم التصوف
على غرار الأب، قررّ الابن أن يعيش في جبة والده، فبدأ بالذهاب وهو شاب في خلوات روحيّة ممتدة بين الواحات خارج القاهرة تارة، وبين المساجد المهجورة في خرابات القرافة وأطراف جبل المقطم تارة أخرى.
لكنه شعر في النهاية أنه لم يكن يحرز تقدماً روحياً عميقاً بما يكفي فتخلى عن تجواله الروحي واتجه للدراسة.
وفي أحد الأيام رأى ابن الفارض على باب المدرسة السيوفية بائعاً للخضار يقوم بالوضوء بشكل خاطئ، وعندما حاول أن يصححه فنظر إليه الرجل وقال له: "عمر لن تستنير في مصر، وإنما في الحجاز في مكة شرّفها الله، فاقصدها فقد آن لك وقت الفتح"، وذلك وفقاً لما جاء في موقع Poetry Chaikhana.
ولمّا حاول ابن الفارض أن يجادل بائع الخضار بأنه لا يستطيع الذهاب إلى مكّة، قام الرجل بإعطائه رؤية أذهلته، فقرر بعدها الذهاب إلى مكة.
خلوته استمرت 15 عاماً
وفي روايات أخرى يقال إنّ ابن الفارض تتلمذ على واحد من كبار فقهاء الإسلام وهو أبومحمد القاسم بن عساكر الذي زوّده بالكثير من العلوم والفقه، بالإضافة إلى معاصرته فترة القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي، فكان شاهداً على سطوع نجمه وعلى انتصاراته العسكرية وإعادة الأمل للمسلمين بعد خيبات الهزائم في الحروب الصليبية، وفقاً لما ذكره موقع الجزيرة نت.
وهذه كانت كانت الأسباب التي مهدت له الطريق للعبور نحو عالم التصوف والذهاب إلى مكة المكرمة، حيث انعزل مدة 15 عاماً في وادٍ بعيد عن مكة، وألف فيها ديوانه الوحيد والشهير "التائية الكبرى".
ومن الأشعار التي ألفها ابن الفارض عن تجربته في مكّة:
يا سميري روّح بمكة روحي
شادياً إن رغبت في إسعادي
كان فيها أنسي ومعارج قدسي
ومقامي المقام والفتح بادي
وبعد تلك الفترة عاد ابن الفارض إلى مصر فأقام في قاعة الخطابة بالأزهر، كما كان الناس يقصدونه دائماً حتّى إنّ الملك الكامل ناصر الدين كان يزوره باستمرار، حتى توفي سنة 632 هـ الموافق 1235م في مصر ودُفن بجوار جبل المقطم في مسجده المعروف باسمه حتى الآن.