والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وحبّك مقرونٌ بأنفاسي
ولا جلستُ إلى قومٍ أحدثهم إلا وأنت حديثي بين جلاسي
ولا ذكرتكَ محزوناً ولا فرحاً إلا وأنت بقلبي بين وسواسي
ولا هممتُ بشرب الماء من عطشٍ إلا رأيت خيالاً منكَ في الكاسِ
و لو قدرت على الإتيان جِئتكمُ سعياً على الوجه أو مشياً على الراسِ
لا شكَّ أنّ غالبيتكم يعرف أنّ هذه الأبيات التي تلامس القلب وتفتن الروح، هي للشاعر الصوفي الحسين بن منصور الحلاج، الذي لطالما أثارت سيرته الجدل بين الناس، وجعلتهم يختلفون في وصفه، بين من يعتبره أحد كبار المتعبدين والزهاد، وبين من يضعه في لفيف المُلحدين.
فمن هو الحلاج؟ كيف كانت نشأته؟ كيف أمضى مسيرة حياته؟ وما الذي دفع الخليفة العباسي المقتدر بالله إلى تقطيع أوصاله وإعدامه ثمّ حرقه؟
الحلاج وانجذابه للصوفية منذ صغره
وُلد الحلاج في الـ9 من نوفمبر/تشرين الثاني 858 ميلادية في قرية تدعى البيضاء في بلاد فارس -إيران حالياً- وهي منطقة كانت لا تزال تدين بالزردشتية أيام الدولة العباسية، ولذلك كانت عائلته زردشتية الأصل قبل أن يعتنق والده الإسلام وهو الأمر الذي جعل الحلاج متقناً للغة العربية على عكس الكثير من الشعراء الصوفيين المعاصرين له.
منذ صغره لم يكتف الحلاج بمجرد حفظ القرآن عن ظهر قلب، بل كان دائماً ما يندفع نحو فهم معاني كلماته العميقة والداخلية، الأمر الذي جعله ينجذب نحو المذهب الصوفي وهو لا يزال في سنّ الـ16 فقط.
أمضى الحلاج فترة شبابه في واسط الواقعة على الضفة الغربية لنهر دجلة في العراق والتي كانت تعتبر أيضاً مركزاً مهماً للطائفة السنيّة، فتعلم فيها أصول الدين على المذهب الحنبلي.
بعد ذلك بدأت رحلة الحلاج بالتنقل، فذهب إلى تستر في خوزستان وتعرف فيها على سهل التستري الذي تعلم على يديه علوم القرآن.
وخلال الفترة التي جسل فيها في تستر ألف الحلاج تفسيراً كاملاً للقرآن مرتبطاً بتأملاته الخاصة، واعتمد فيه على فكرة أنّ على الإنسان أن يبحث داخل نفسه ليدرك الله.
بعد ذلك اتجه الشاعر الصوفي نحو البصرة التي أعلن فيها تصوفه بشكل رسمي، فارتدى فيها خرقة التصوف، وبدأ بممارسة الطقوس الصوفية.
وفي عام 877، تزوج الحلاج من ابنة أبي يعقوب الأقطع البصري الذي كان أحد تلامذة المتصوف الجنيد البغدادي.
حرب الزنج وعلاقتها في جهره بالصوفية
لم تكن الفترة التي جاء فيها الحلاج إلى البصرة مستقرة، فكانت حرب الزنج مشتعلة بين الدولة العباسية وبين عدد كبير من العبيد الذين تم استقدامهم من إفريقيا والذين يعمل جلّهم في معامل الملح وسط ظروف سيئة.
على الرغم من أنّ الكثير من شيعة البصرة كانوا إلى جانب ثورة العبيد ومن بينهم عائلة زوجته، فإن الحلاج قرر الابتعاد عن هذه الأحداث السياسية التي انتهت بمجازر واسعة ارتكبها العباسيون بحق العبيد وفقاً لما ذكره موقع Islamstory.
ويقال إنّ سبب خروج الحلاج من البصرة هو موقفه الصارم بشأن العبيد الذين يعانون من أوضاع قاسية ولأنه دائماً ما كان يوجه المسؤولية نحو الدولة العباسية، فاتجه الشاعر الصوفي نحو مكّة من أجل الحج فأقام فيها عاماً كاملاً يمارس فيها الطقوس الصوفية.
وعندما عاد الشاعر الملقب بأبي المغيث إلى زوجته في البصرة، قرر بدء الجهر بآرائه وأفكاره الصوفية، حتى يقال إنه أصبح يتحدث بلسان الله.
روايات متعددة حول سبب إعدام الحلاج
معظم المصادر العربية أو الدينية تشير إلى أنّ الحلاج كان خلال تجواله وتنقلاته في البلاد دائم الانتقاد للعباسيين وللأوضاع السيئة التي يعيشها الناس في ظل حكمهم.
فتسبب ذلك بغضب الخليفة المقتدر بالله، الذي دبّر له مكيدة بإدخاله السجن وتجنب إغضاب مريديه وأتباعه في الوقت ذاته، وكانت تلك المكيدة هي اتهامه بالزندقة والإلحاد.
أما الروايات الأخرى فتقول إحداها إنه عندما كان عمرو بن عثمان المكي يتلو القرآن، جاءه الحلاج وقال له إنه قادر على كتابة شيء كهذا، ما أدى لاتهامه بالإلحاد وفقاً لما ذكره كارل إيرنست مؤلف كتاب "كلمات النشوة الصوفية".
فيما تحدث سبط ابن الجوزي في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان" (يمكنك تحميله من هنا) عن رقع وُجدت في منزل الحلاج وعليها رموز غريبة، كما أن له لغة خاصة مشفرة كان يعتمدها خلال مراسلاته مع أتباعه.
ومن بين الروايات الأخرى هو أنّ الحلاج كان مؤمناً بأن "إبليس" كان موحداً حقيقياً ولذلك لم يسجد لآدم.
وقال البروفيسور إرنست: إنّ التفسير الذي قدمه الحلاج هو أن الله قد أعطى إشارة لإبليس بأنه لا ينبغي أن يسجد، ولذا فقد عصى، لكنه داخلياً كان الأكثر ولاء لذلك كان على استعداد لتحمل أي عقوبة ليبرهن ذلك".
أما الرواية الثالثة وفقاً لإرنست فهي أنه تم إلقاء القبض على الحلاج وبحوزته وثيقة مكتوبة بيده يوصي فيها أولئك الذين لم يتمكنوا من تحمل تكاليف الحج، ببناء نموذج للكعبة في منازلهم ليؤدون الطواف حولها وبأن يصدقون للفقراء ويطعمون بعض الأيتام ليكونوا بذلك قد أتموا فريضة الحج.
إعدام الحلاج بعد 9 سنوات من الاعتقال
في عام 913 اعتقل الشاعر الحلاج بأمر من المقتدر بالله، ووضع في السجن، وكان ينقل من سجن إلى آخر كل فترة بسبب عظاته التي كان يعطيها للسجناء، حتى وصل في نهاية المطاف إلى سجن السلطان، وبقي قيد المحاكمة مدة 9 سنوات، حتى حكم القاضي أبوعمر المالكي عليه بالقتل بحجة أنه كافر وملحد وزنديق ومشعوذ.
وعندما علم الشاعر الصوفي بأمر الحكم بإعدامه، أرسل خطاباً إلى الخليفة والقضاة قال لهم فيها: "ظهري حمى، ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتهموني بما يخالف عقيدتي ومذهبي السنة، ولي كتب في الوراقين تدل على سنتي، فالله الله في دمي".
لكنّ محاولته الأخيرة باءت بالفشل، ففي الـ26 مارس/آذار 922، أخرج الحلاج نحو ساحة عامة في العاصمة بغداد، وجلد فيها ألف مرة، وصلب فيها حتى فارق الحياة، وفي اليوم التالي قطّعت أوصاله وأحرق جثمانه ونُثر في نهر دجلة.
أبرز أشعار الحلاج
صحيح أنّ الحلاج لم يعتبر نفسه يوماً شاعراً وإنما كاتب ومدرس صوفي، فإن أشعاره المتبقية التي أنقذها تلاميذه من الحرق لاقت رواجاً كبيراً في الشعر العربي، فغنى من أبياتها كبار الفنانين العرب مثل:
رأيت ربي بعين قلبي بصوت كاظم الساهر
إذا هجرتَ بصوت جاهدة وهبة
يا نسيم الريح بصوت مارسيل خليفة
عجبت منك ومنّي بصوت ريم بنّا
والله ما طلعت شمس ولا غربت بصوت غالية بن علي
اقتلوني يا تُقاتي بصوت ظافر يوسف
يا كلّ كلي بصوت عيسى بولص
كَفرتُ بصوت ظافر يوسف
إضافة إلى أبيات شعر أخرى لاقت رواجاً كبيراً تم تجميعها في كتاب "الطواسين" الذي يحتوي على بعض من نصوصه الأصلية ونصوص أخرى تمّ جمعها لاحقاً.
ومن أبرز تلك الأشعار نذكر لكم:
أَنا مَن أَهوى وَمَن أَهوى أَنا نَحنُ روحانِ حَلّا بَدَنا
نَحنُ مُذ كُنّا عَلى عَهدِ الهَوى تُضرَبُ الأَمثالُ لِلناسِ بِنا
فَإِذا أَبصَرتَني أَبصَرتَهُ وَإِذا أَبصَرتَهُ أَبصَرتَنا
أَيُّها السائِلُ عَن قِصَّتِنا لَو تَرانا لَم تُفَرِّق بَينَنا
روحُهُ روحي وَروحي روحُهُ مَن رَأى روحَينِ حَلَّا بَدَنا