ما حيلة الأيام، فقيرة إلى مولاها، تدور في فلك لا يتوقف منذ خلق الله الأرض، هكذا كانت منذ الأزل، شمس تغيب وتسطع، وأمم تعلو وتهبط، وحضارات تتوهج وتنطفئ، وبشر يتناوبون الأدوار، وعلامات وبالنجم هم يهتدون.
ثم إن كان محمد، ومحمد خاتمة عقد الأنبياء الفريد، بدر التمام الذي أذن الله به أن تُختم الرسالات، وينقطع من بعده وحي السماء، ولكي يتنزل وحي السماء كان لابد من مشهد مهيب، وزمن شريف، نعم الزمان والمكان.
المكان، غار في أم القرى يختلي فيه الحبيب بربه.
والزمان، ليلة سرمدية لا تشبهها الليالي، قدرها من قدر ما يتنزل فيها، في شهر يفوق الأشهر كرامة ومكانة، شهر رمضان.
ما حدث في ذلك الرمضان البعيد غيَّر وجه الدنيا إلى الأبد، طاقة النور التي تنزلت مع الملك الأمين، أضاءت وجه الأرض وأذنت ببداية جديدة للبشرية.
كان الاتصال والاكتمال والمدد، ولأن النور كان عظيماً فقد انسكب عبر الزمان، وامتد نوره في كل رمضان يأتي على الدنيا، أصله ثابت وفرعه في السماء يؤتي أكله كل عام بلا توقف حتى قيام الساعة.
ومع مرور الزمن وكعادة البشر الذين يصيبهم داء الاعتياد، فيجعل من رمضان عيداً ملوناً وبهجة سنوية محببة، وتفاصيل وتقاليد وكرامات، إلا أن سر أسرار الجمال والجلال في رمضان أن الله شرفه بالاتصال بالأرض فيه، وأن كلمات الله التامات تنزلت هدى للناس وبيناتٍ من الهدى والفرقان، ومن هنا جاء الصيام الذي يهذب حواس الناس لترهف الإنصات وتتأهب لتتحمل الأمانة وترتقي في معارج النور.
وبينما يطوى ليل رمضان آخر طيات ثوبه الواسع.. أرهف حواسك، افتح قلبك لتلتقط الإشارات، كن شاهد عيان على ظاهرة أفئدة الطير المضيئة التي تُرى كل ليلة. يقول العارفون إنها تحلق بعيداً حيث سماوات الله العالية التي لا تكف عن تسبيح الإله الواحد، ويؤكدون أنها كالطيف الحالم لا تكشف سرها إلا لمن طرق الباب بصبر، وكان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. رمضان عيد المعجزة الكبرى، وموسم حصاد العطايا التي ينثرها الرب كرماً على خلقه.
في رمضان أعد اكتشاف كتابك، وابحث عن أسراره ومفاتيح أنواره، أقبِل عليه بصدق حتى يفتح لك، فليس كل من قرأ قارئاً وليس كل من حفظ حافظاً، اقرأ بقلبك في الكتاب الأعظم، تجرد حتى تجد ريح يوسف، وترى كيف ابيضت عينا يعقوب من الحزن، وتتأمل قرابين ابنَي آدم عندما تُقُبِّل من أحدهما ولم يُتَقبل من الآخر.
تسلم على إبراهيم؛ إذ يرفع القواعد من البيت وإسماعيل، وتسمع مزامير داوود وتسابيح الجبال معه والطير، وستعجب كيف يلين الحديد طوعاً بين يديه، وستفرح عندما يربط الله على قلب أم موسى الفارغ كي تقر عينها ولا تحزن، وسينخلع قلبك عندما ينشق البحر لموسى، وترتجف وجلاً بينما يخلع نعليه بالواد المقدس طوى ليكلم رب العالمين، أو ربما تخر صعقاً عندما يتجلى ربه للجبل ويجعله دكاً.
ستراقب نوحاً يصنع الفلك وكلما مر عليه قومه سخروا منه، ومريم قائمة تصلي في المِحْراب وزكريا حائرٌ كلما دخل عليها وجد عندها رزقاً، وسترى رضيعاً كالبدر يكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين، وامرأة عجوزاً تضحك من بُشرى جاءتها بعد طول الصبر بغلام حليم، وستكتحل عينك بمحمد يُذهب الروع عن صديقه الطيب؛ إذ يقول لصاحبه "لا تحزن إنَّ الله معنا".
إذا خرجت من رمضان وقد أصبح القرآن صوراً حية تنبض في قلبك، تأتنس بكلماته، وتغزل فى خيالك حكاياته، وتسمع خرير الأنهار تجري تحت جناته، تزدهر وتستقيم وتعتبر، وتمشي وجلاً على حافة صراطه، فقد فهمت الغاية وأدركت مقصد الرحلة وعدلت بوصلة قلبك وأوتيت مفتاح خزانة الأسرار.
سيذيب القرآن الأقفال الموصدة، ويسكن القلب بيقين عجيب "كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا"، القرآن العظيم دواء مجرب لتثبيت الأفئدة، سبق وثبت فؤاد النبي بينما يتنزل عليه رائقاً كالغيث، ومن أسراره أنه يملأ برفقٍ الأماكن التى فرغت منك بينما تصارع الحياة، ويرمم بلطفٍ الشقوق التى تصدعت في جدار روحك، ويضع بحرصٍ الأشياء فى أماكنها الصحيحة، ويتركك دائماً مجبوراً بسر كرامته وعظيم شأنه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.