"من أيّ عهدٍ في القُرى تتدفقُ.. وبأيّ كفٍّ في المدائن تُغدقُ.. ومن السماء نزلتَ أم فُجرت من.. عليا الجِنان جداوِلا تترقرقُ؟ وبأيّ عين، أم بأية مزنةٍ.. أم أيّ طوفانٍ تفيض تَفَهَّقَ؟"
هذه التساؤلات التي أطلقها الشاعر أحمد شوقي تمجيداً للنيل بمثابة صدى للتساؤلات المماثلة التي طالما ترددت في شمال الوادي عبر آلاف السنين.
لم يكن النيل محط اهتمام المصريين فقط مُنذ أقدم العصور، لكن حضارة المصريين القدماء هي التي صنعت أسطورته.
فقد عانى المفكرون في جميع العصور منذ بدء التاريخ بنهر النيل، ووصفه، وتتبع منابعه، وحوضه، ومصبه، وكثرت المحاولات لتفسير أحواله وظواهره المختلفة، وذلك لاكتشاف سره الأكبر.
فمنذ أن عرفه الإنسان المصري القديم وهو يرى أنه أعظم نعمة وهبها الله سبحانه وتعالى لمصر وأهلها على مرّ التاريخ، وأنه الركيزة الأولى التي قامت عليها حضارة مصر المبكرة، التي نعرفها نحن منذ آلاف السنين، وقد وجد النيل حظه من التبجيل والتقدير في زمن حكم الدولة المصرية القديمة وما تلاهم من الإغريق والرومان، كما حظي في حظيرة الإسلام بمكانة دينية مرموقة، وقد وصفه المسلمون بأنه "سيد الأنهار" وأنه "بحر النيل المبارك".
لم يخلُ نهر النيل من الحكايات والأساطير المتعلقة حول نشأته واستمرار تدفقُ مياهه، فقد كانت تشير حكايات نشأة الكون والخلق والآلهة عند المصري القديم، إلى أن الإله "نون" رب المياه الأزلية كان هو كل شيء، وعندما بدأت المياه الغامرة لكل شيء في الانحسار ظهر تل الأبدية وظهرت عليه كائنات إلهية وكان عددها ثمانية.. ولو تأملنا الكلمة "نون" فإن تحويرها إلى نيل هو أمر مرجح، خاصة أن منبع مياه النيل وفقاً للمصري القديم هي المياه الأزلية التي كانت مصدراً لكل شيء، بما في ذلك الآلهة نفسها.
ومن الروايات التي تداولت حول نشأة نهر النيل أن (مصرام بن بنصر) أحد أحفاد نوح عليه السلام والذي نجا من الطوفان هو الذي بني مدينة مصر، وإليه تنسب، وكان عالماً بعلم الكهانة، والطلاسم التي استخدمها في إنشاء نهر النيل، حيث تتدفقُ مياه النهر من سفح جبل القمر من خلال 35 تمثالاً من النحاس تروى من أذرعتهم أرض مصر، وازدادت الحكايات حول أن (مصرام) كانت لديه قوة خارقة جعلته قادراً على حفر النهر بيده، وذلك بسبب التصور الشعبي عند المصري القديم عن وجود أُناس عمالقة، وهذا التصور الشعبي القديم جعل أرسطو يظن أن منابع النيل تقع عند سلسلة جبال تسمى جبال الفضة.
كان المصريون قد جعلوا من النيل إلهاً قبل اعتناقهم الديانات السماوية، فإنهم ظلوا يحتفظون لهذا النهر بمكانة رفيعة في وجدانهم بحيث حاولت أساطيرهم أن تجعله من أنهار الجنة.
يحكى أن المصريين القدماء كانوا يعتبرون النيل إله الخير والنماء والخصب، لأنه كان شريان الحياة في مصر.. فكان النيل يفيض بالخير لهم ويعم بالرخاء عليهم وتزرع البلاد كل أنواع المحاصيل، ولكن في سنة من السنين أبى النيل أن تفيض مياهه وحل الجدب والقحط على أرض مصر وتعذب المصريون.
وأشار الكاهن على الملك بأن النيل غضبان لأنه يريد الزواج وتكون له ذرية، فانهالت الفتيات تريد الزواج من إله الخير، فكانت تقيم المراسم والاحتفالات ويقوم الكاهن باختيار أجمل فتاة.
وبعد الانتهاء من المراسم تقوم العروس وترمي نفسها في النيل وهي سعيدة راضية لأنها ستلتقى بحبيبها، في انتظار الخير الذي ستجده في العالم الآخر، واستمر الاحتفال سنوات وسنوات حتى إنه لم يجد فتيات لهذا الأمر، ولكن الكاهن أصر على الاحتفال، فلم يجدوا إلا بنت الملك وكانت جميلة وفاتنة ولها خادمة تقوم على رعايتها وتحبها حباً لا يوصف، فحزنت الخادمة وأرادت أن تحتفظ ببنت الملك حتى لو انتهى الأمر بعدم فيضان النيل، فأخذت تفكر وتفكر حتى هداها تفكيرها إلى أن تصنع دمية شبيهة ببنت الملك صورة طبق الأصل لا يفرقها إلّا وجود الروح فيها، وقالت للملك إن الاحتفالات ستقام في موعدها رغم أنى حزينة على فراق ابنتك الغالية، ثم قامت بتزيين العروس وصممت أن تلقيها بيدها هي في النيل لتزفها إلى حبيبها بيدها، وتمت المراسم وانتهى الحفل وأصاب الملك كآبة ويأس وحزن شديد على فراق ابنته الغالية حتى أصبح طريح الفراش، وهو لا يدري أن الخادمة قد أخفت البنت في بيتها وبين أولادها ولما رأت حزن الملك وازدياد مرضه يوماً بعد يوم أشفقت عليه بعد أن كانت ستأخذ البنت لنفسها وتربيها على أنها ابنتها لأنها في الواقع أصبحت في نظر الجميع "عروسة نيل".
وفي أحد الأيام وبعد أن أشرقت الشمس وطل الصباح بنوره الوضاء أخذت الخادمة البنت وقالت للملك: هذه ابنتك سليمة معافاة لم يصبها أذى ولم تمس بسوء وكانت عندي معززة مكرمة، لم يتمالك الملك نفسه وأخذ يحتضن ابنته بطريقة هستيرية وشكر الخادمة، وبعد ذلك كان في كل عام يصنعون دمية جميلة ويقيمون الاحتفالات ثم يرمون الدمية إلى النهر العظيم.
ومن الموروث الشعبي المتراكم حول نهر النيل أيضاً حكايات "النداهة"، وهي من الحكايات الريفية المصرية، حيث يزعم الفلاحون أنها امرأة جميلة جداً وغريبة تظهر في الليالي الظلماء في نهر النيل، لتنادي باسم شخص معين فيقوم هذا الشخص مسحوراً ويتبع النداء إلى أن يصل إليها ثم يجدونه ميتاً في اليوم التالي.
كما أن نهر النيل أخذاً قسطاً موفوراً واهتماماً ملحوظاً من القصص الدينية، من جانب المؤرخين، وكثرت الاعتقادات الدينية حيث انتشر قول يزعم أن (جبريل) عليه السلام نزل بالنيل والفرات على جناحيه "فكان النيل على جناحه الأيسر، والفرات على جناحه الأيمن".
قديماً قال هيرودوت: "مصر هبة النيل"، وهو يقصد أن النيل هو من وهب مصر الحياة والوجود وأنه لولا النيل ما قامت على هذه البقعة من أرض الله حضارة مذهلة امتدت جذورها في أعماق التاريخ الإنساني، وما زالت قائمة شواهدها حتى اليوم.. وأنا أقول له قولاً آخر، فالنيل ليس مختصاً بمصر وحدها، ولكن جاءها من بلدان قبلها فلو أن النيل وهب مصر ما هي عليه لكان وهب هذه البلدان المجاورة أيضاً الحضارة العظيمة التي هي من صنع شعب مصر العظيم القديم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.