عفواً لقد نفد رصيدك، سيكون الأمر عادياً في حال كان متعلقاً بالنقود في حساب هاتفك، ولكن ماذا إن كان متعلقاً بحياتك؟ تخيل معي عزيزي أنك استيقظت صباحاً تتفقد هاتفك الجوال فإذا برسالة من الحكومة تقول إن تقييمك قد تدنى، أنت في خطر. ولأنك تيقظت للتو فإنك لا تتذكر أي شيء من حياتك؛ لذلك لا تعرف بشأن التقييمات.
تذهب للسوق فيمتنع البائعون عن البيع لك، لا تستطيع دفع فواتير المياه والكهرباء، لا تستطيع ركوب تاكسي للعودة، فيتغير مزاجك إلى الأسوأ ومن ثم سلوكك وتعبيرات وجهك، وحينها تجد رسائل على هاتفك بغرامات، فيزداد سلوكك سوءاً، فتجد الشرطة تطاردك.
الآن أنت مهدد بالاعتقال، ولأنك مازلت غير مدرك أو متذكر شيئاً عن حياتك، وقد وصلت إلى هذا الزقاق المظلم، وما زال أمامنا وقت حتى تأتي الشرطة فدعني أخبرك ببداية الأمر.
بالمناسبة نحن لسنا في لعبة من ألعاب الواقع الافتراضي. وأنا لست مرشدك في اللعبة. أنت تقرأ المقال في بيتك أو عملك أو في المواصلات الطويلة المملة وأنا أتحدث عن الصين في عام 2020.
ولكن لأن الوقت أمامنا فدعنا نعُد للخلف قليلاً حتى سبعينات القرن الماضي. كان مشروع ماو تسي يونغ الشيوعي ما يزال فتياً، قادراً على خلق الأفكار المبدعة. ويبدو أن أحد مستشاريه قد حصل للتو على نسخة جديدة من الرواية الممنوعة 1984 للكاتب جورج أورويل.
الرواية كانت تتحدث عن القمع في الدول الشيوعية والاشتراكية، وربط العديد من النقاد الأمر بدولة ستالين في روسيا، ولكن أورويل قد استرسل في أفكاره القمعية لدرجه أنه قال إن هناك دولة تراقب المواطنين 7 أيام في الأسبوع و24 ساعة في اليوم، أي ما يعادل كل حياة المواطن، وأن هذا يتم على نطاق واسع أي مع كل المواطنين وليس قلة تحددهم الحكومة كما جرت العادة.
ليجد ماو تسي تونغ نفسه أمام هذه الفكرة وفي الخلف كانت معلقة خارطة الصين العملاقة. وكأي فتى شيوعي يؤمن بقوة الحزب الشيوعي، يقرر أنه سوف يراقب كل سكان الصين، أي ما يقارب 830 مليون شخص!
وعلى عكس آخر مقطع بالأعلى دعنا نتحدث بجدية قليلاً، ماو تسي يونغ سواء كنت مختلفاً معه أو متفقاً، هو بالتأكيد شخص عظيم حاول بناء نهضة عظيمة في الصين. في فترة السبعينات كان "ماو" يحاول أن يركز على موضوع الإنتاج الداخلي أكثر، ووجد أن الفرد هو نواة هذا النظام الإنتاجي، فبالتالي ركز أكثر مع سلوك الفرد المتعلق بالإنتاج، حينها وجد أن سلوك الفرد غير المتعلق بالإنتاج يؤثر على سلوك الفرد الإنتاجي.
إذا شعرت ببعض الغموض في الجملة السابقة، حسنا إليك المثال التالي:
"إذا كنا نعيش في قرية صغيرة إلى الحد الذي تتكون فيه القرية من صانعين يتبادلون السلع معاً، ومع فرضية أن الصانعين جميعهم يتمتعون بنفس المهارة، لكن السلوكيات تختلف. حينها ستجد أن المعظم يمتنع عن التعامل التجاري مع أصحاب السلوكيات التي يُرى أصحابها غير أهل بالثقة. حينها سيقل حجم التبادل التجاري بينهم، والسبب هنا غير متعلق بالسلوك الإنتاجي، ولكن متعلق بالسلوك غير الإنتاجي".
طبقاً للمثال المصغر السابق وجد "ماو" نفسه أمام أزمة ثقة، هو لا يثق في ثقافة الشعب الاجتماعية والشعب لا يثق ببعضه، فوضع خطوطاً عريضة مستمدة من أفكار ماركس ولينين لكي يعيد لهم تلك الثقة في بعضهم البعض. هذا ما حدث في السبعينات من القرن الماضي.
ومن حينها ظلت الأفكار حبراً على ورق، حتى عام 2001 عندما أتى "جيانغ زيمين" وقرر أن أفكار "ماو" عظيمة ووجب تنفيذها، ولكنه قد أعطى لتلك الأفكار طابعاً بوليسياً.
الأمر كان يشبه جهاز أمن الدولة، ولكن بسلطات موسعة أكثر. هذا الجهاز كان يقوم بتعقب الناس في نطاق مكاني محدد كتجربة للمشروع، من أجل تعديل سلوكهم، وكان من أساليبه الأساسية الاعتقال الفوري، أو ما يشبه الاختفاء القسري، ولكن كعادة أي نظام مبني على القوة، انهار هذا النظام وسبب الكثير من الخسائر في الأرواح وكذلك في رصيد الثقة.
أو كما قال عالم الاجتماع الصيني "زانغ ليفان" إن النظام فشل؛ لأنه تسبب في الحرص الزائد من قبل الأسر الصينية بعد أن فقدت الصين الكثير من الاشخاص جراء هذا النظام (الكثير هنا تعني الملايين).
النظام أدى إلى زيادة عدم الثقة، وهذا لم يكن هو الهدف المنشود من المشروع في الأساس. ولكن كعادة الحكومات الشيوعية، قالت الحكومة في الصين لا تراجع ولا استسلام، ولكن بدأت بأخذ خطوات أكثر ذكاءً على مدار عقود.
سوف أشرح لك التسلسل الحادث من عام 2013 تقريباً إلى نهاية 2020.
في عام 2013، بدأت المحكمة الشعبية العليا في الصين بوضع قائمة سوداء بأسماء المدانين شملت نحو 32000 اسم. ويصف الإعلام الحكومي القائمة آنذاك بأنها الخطوة الأولى نحو نظام رصيد اجتماعي وطني، وخرج الناس للاحتفالات في الشوارع، وقد قام الأستاذ محمد فؤاد الصيني بغناء أغنية تمجد الرصيد الوطني. ومن ليلتها والحكومة الصينية لم يغفل لها جفن وأصدرت قرارات من أجل إسعاد الشعب أكثر.
سوف أكتب لك بضع نقاط وعليك تخيلها على صفحة جريدة الأهرام الصينية الرئيسية والكاميرا تسير ببطء مع صوت موسيقى وطنية حماسية صينية.
• في عام 2015، منح بنك الصين الشعبي تراخيص لثماني شركات ببدء استخدام نسخ تجريبية من أنظمة رصيد اجتماعي.
• في عام 2017، لم تُمنح تراخيص لشركات خاصة. وتضمنت الأسباب تعارض المصالح، والتحكم المتبقي للحكومة، إضافة إلى انعدام التعاون في مشاركة البيانات بين الشركات التي تساهم في التطوير. وبذلك، لم يُستبعد بعد خيار إدارة نظام الرصيد الاجتماعي من قبل جهة خارجية ظاهرياً، مثل لجنة رسمية مشتركة بين الشركات الخاصة.. (هذه النقطة مهمة جداً، تذكر كلمة ظاهرياً، ستساعدك في نهاية المقال).
• حتى مارس/آذار 2017، كان ثمة 137 شركة إعداد تقارير رصيد تجارية ناشطة في السوق الصينية. كجزء من تطوير نظام الرصيد الاجتماعي، عمدت الحكومة الصينية إلى مراقبة عمل أنظمة تصنيف ائتماني صينية تعود إلى طرف ثالث. (لا ليس هو الطرف الثالث الذي أتى في مخيلتك، تخلص من ذكريات الثورات يا عزيزي)
• حتى فبراير/شباط 2018، لم يكن ثمة نظام رصيد اجتماعي شامل على المستوى الوطني، لكن وُجدت عدة محاولات تجريبية لاختبار النظام على مستوى محلي إضافة إلى قطاعات صناعية محددة. وقد تم تطبيق برنامج مشابه في شانغهاي من خلال التطبيق الإلكتروني المسمى "أونست شانغهاي"، الذي يستخدم برمجية تعرف على الوجه ليتصفح السجلات الحكومية ويقيّم المستخدمين وفقاً لها.
• في مارس/آذار 2018، نشرت وكالة رويترز تقريراً مفاده أن التقييدات المطبقة على المواطنين ومشاريع الأعمال التي لديها تقييمات رصيد اجتماعي منخفضة، وبالتالي جدارة منخفضة بالثقة، ستصبح سارية المفعول في 1 مايو/أيار. وبحلول مايو/أيار 2018، حُرم الأشخاص الواردون على القائمة السوداء من رحلات جوية ورحلات قطار سريع وصل عددها إلى عدة ملايين.
• في أبريل/نيسان 2018، تحدثت الصحفية "سيمينا ميسترينو" عن مجتمع تُنشر فيه مجاميع الرصيد الاجتماعي للأشخاص قرب مراكز القرى.
• حتى منتصف 2018، لم يكن واضحاً هل سيكون النظام "نظاماً بيئياً" يتضمن مجاميع وقوائم سوداء متنوعة تدار من قبل وكالات حكومية وشركات خاصة معاً، أم سيكون نظاماً واحداً موحداً. وكذلك ليس واضحاً هل سيكون هناك مجموع رصيد اجتماعي واحد على مستوى النظام لكل مواطن ومشروع عمل.
• في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، وُضع مخطط مفصل من أجل زيادة تطبيق البرنامج المخصص لـ 2018-2020. وتضمن المخطط وضع الأشخاص على القائمة السوداء لدى المواصلات العامة والكشف العلني لتقييمات انعدام الجدارة بالثقة للأفراد ومشاريع العمل.
• في يناير/كانون الثاني 2019، أعلنت حكومة بكين رسمياً أنها ستبدأ باختبار (نظام مجموع الرصيد الشخصي).
• في أبريل/نيسان 2019، أعلن بنك الصين الشعبي أن نسخة جديدة من تقرير الرصيد الشخصي ستُطلق وتوفر إمكانية جمع المزيد من المعلومات الشخصية. وقد وصفها الإعلام الحكومي بأنها أكثر تفصيلاً وشمولاً ودقة. (شمولاً هنا جاءت قبل دقة؛ لأنها فعلاً بالنسبة للحزب الشيوعي الأهم)
• في مايو/أيار 2019، أعلنت بكين أن بعض السلوكيات غير اللائقة في مترو الأنفاق قد تعرض من يفعلها إلى وضع اسمه على القائمة السوداء.
ما يخطر بذهنك هنا أن هذا النظام مثالي، سوف يوضح من هو الجيد والسيئ بين الناس، وحينها يمكن للمجتمع نبذ السيئين، ونعيش جميعاً في مجتمع هادئ، تستطيع السيارات خلاله استخدام البرفانات كوقود عوضاً عن البنزين. لديك كل الحق عزيزي المواطن، ولكن هذا يتوقف على من هو الجيد ومن هو السيئ، ومن سوف يحدد الجيد والسيئ؟
حسناً تخيل معي تلك الحكاية. "أنت في خضم حرب وبينما أنت في خندقك تفكر في أن جيشك بالتأكيد هو الجيد وأنه يتحرك في هذا الحرب من أجل السلام الشامل، وأنه يقاتل من يستحقون الموت، بالتأكيد سوف تفكر هذا، فأنت لم تأتِ كل هذه المسافة وتنام في الخندق حيث تتطاير الصواريخ فوق رأسك من أجل جماعة لا تستحق الموت، بالتأكيد يستحقون".
الغريب في القصة هنا أن هناك جندياً مثلك في الخندق المقابل لك يفكر في نفس الأفكار، ولكن مع عكس الوضع. والأكثر غرابة أنكما لا تعرفان بعضكما الآخر مطلقا لتطلقا تلك الأحكام في الهواء مع كل تلك الدماء.
حسناً لمن نحتكم لنحدد من هو الجيد ومن هو السيئ ما دمنا غير أهل للحكم كما رأينا. المجتمع الذي تعيش به يغذيك بالأكل والشرب والأفكار، تلك الأفكار هي نواة حكمك على الغير وعلى المجتمع نفسه، ولكن من يغذي المجتمع بالأفكار؟ لكي تأتي أنت تأخذها كوجبة سريعة في منتصف النهار.
هناك طريقتان يتغذى بهما المجتمع من الأفكار:
أول طريقة هي العادات والتقاليد، وفي تلك الحالة تكون قوة التغذية معتمدة على الوازع الديني أحياناً أو العرقي، وقوتها تكون من قوة التماسك العائلي والاجتماعي في المجتمع، وهذا مناسب للقرى الصغيرة ذات النطاق المحدود.
الطريقة الثانية: وهذا يناسب المجتمعات العملاقة التي نعيش بها الآن، وهذه الطريقة هي الحكومات.
الحكومات تستطيع أن تغذيك بالأفكار عن طريق كل شيء، ابتداءً بموظف المصالح الحكومية حتى الإعلانات التجارية والأفلام والأخبار، وكل شيء.
عزيزي المواطن أنت محاصر، ولأنه كما في المثل الشعبي (الزنّ على الودان أَمَرّ من السحر)، فكل شيء سوف تسمعه بتكرار رتيب سيصبح عادياً مع الوقت مهما كان غريباً عن أفكارك الأساسية والاجتماعية والدينية.
لا تتشتت كثيراً، مازلنا نتحدث عن نظام الرصيد الاجتماعي، الرصيد أو التقييم الذي سيحصل عليه الفرد من خلال تقييم الناس لأفعاله، والناس ستُقيّم أفعالك طبقاً لأفكارها، والأفكار تأتي من المجتمع، والمجتمع يأتي بها من الحكومة.
السؤال هنا مَن الذي يُقيّمك في الأساس؟ الجواب سيكون (الحكومة).
بهذه الطريقة عزيزي إن كنت معارضاً لنظام حكم مثلاً، فالحكومة لن تُكلف نفسها عناء مطاردتك أو تعين جواسيس ومخبرين، أو حتى تخصيص مكان لك وأكل وكهرباء في السجن. على العكس سوف تترك كل المهمة لمجتمعك الذي سيقوم بعزلك اجتماعياً واقتصادياً.
أُسرتك وأصدقاؤك ومجتمعك لن يكون بمقدورهم التعامل معاك خوفاً على رصيدهم الاجتماعي، ستكون كالأشباح على الورق، فقط لك وجود، لكن لا تستطيع أن تركب مترو أو تشتري من السوبر ماركت أو تحصل على وظائف أو تتاجر أو تسكن في أماكن معينة ذات نقاط رصيد اجتماعي مرتفع.
هذا النظام سيوصلك لنفس نهاية بطل رواية 1984، وهو رغم أنه كان ضد النظام على طول الخط، ولكنه في النهاية وجد أنه يحب الأخ الأكبر من كل قلبه، ويرى أنه الصواب، لأن صواب الأخ الأكبر هو الذي سيضمن له الحياة الآمنة.
ولو ركزت معي ستجدنا نفعل هذا في حياتنا اليومية في هذا العصر في مختلف بلداننا، سواء مع تطبيقات اجتماعية مثل فيسبوك وتويتر، والذي يحدد أهمية الناس ومكانتهم طبقاً لعدد التعليقات والإعجابات التي يأخذها أو مثل تطبيقات أوبر وكريم، أنت تقوم يومياً بتقييم للسائقين. وكيف يمكن أن تنتهي حياة السائق المهنية ونقطع مصدر رزقه، لأن اليوم لم يكن يوم حظه، وقد حصل على تقييم سيئ من كل عملائه.
وعلى طريقة الأستاذ محمد حسنين هيكل الذي جعلني أتساءل: "الشيوعية من أين وإلى أين؟!"
لينين قال إن ماركس قال إن العالم الرأسمالي سيتحول إلى اشتراكي، ثم إلى شيوعي في دائرة حتمية، لكن لينين مات قبل أن يقول لنا هل الدائرة سوف تكتمل والشيوعية تتحول إلى رأسمالية أم لا؟
الذي جعلني أسأل هذا السؤال هو أن الأنظمة الرأسمالية تترك الناس للناس دوماً فيما يتعلق بالتجارة، وبالتالي فيما يتعلق بحياتهم، ومن المفترض أن الشيوعية جاءت من أجل أن تحل تلك الأزمة، وتجعل الدولة ممسكة بكل خيوط اللعبة؛ لكي يجد المواطن من يحنو عليه.
فماذا إذا تركت الشيوعية المواطن لأخيه المواطن يقيمه ماذا سيتبقى؟ أراها رأسمالية ولكن بمحتكر وحيد. دعني أختم هذا المقال بمقولة من رواية 1984 التي تشبه هذا الوضع بدقة: "كانت أمتع الساعات في حياة ونستون هي تلك التي يمضيها في العمل، صحيح أن معظم العمل كان مملاً ورتيباً، ولكن كانت هناك مهام صعبة ومُعقدة إلى حد قد ينسى المرء نفسه في غمرتها".
أنت وأنا الآن عزيزي في تلك المرحلة، فهل سنأخذ مسار البطل في النهاية ونحب الأخ الأكبر من قلبنا حقاً؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.