في وسط الصحراء الكبرى، توجد مدينة قديمة اسمها تيمقاد، كانت في يوم من الأيام تعجّ بالمواطنين الرومان، إضافة إلى أنها آخر المعاقل الجنوبيّة المتبقية للإمبراطوريّة الرومانيّة قبل سقوطها.
ولسبب مجهول تخلى منشئو المدينة عنها، كما هجرها سكانها، لتلتهما رمال الصحراء على مدار قرون.
مدينة تيمقاد الرومانية
شيَّدت الإمبراطورية الرومانية مدينة تيمقاد أو تاموغاس عندما كانت في أوج قوتها، وتقع حالياً شمال شرق الجزائر جنوب قسنطينة.
ووفقاً لما ذكره موقع Past Factory فقد قرر الرومان بناء هذه المدينة بمحاذاة جبال الأوراس لأغراض استراتيجية تتمثّل في حماية طرق التجارة البالغة الأهمية بالنسبة للإمبراطورية الرومانية ضد القبائل في الجنوب، وقد حقّقت تيمقاد هذا الغرض الحيوي وظلَّت طرق التجارة آمنة لعدة قرون.
أطلق الرومان على تيمقاد لقب "الوطن"
على الرغم من أنَّ تيمقاد بُنيت بعيداً عن قلب الإمبراطورية الرومانية، فقد استقر فيها عدد كبير من السكان وأطلق عليها الرومان اسم "الوطن".
ووصف الخبراء المباني العامة في المدينة بأنَّها كانت ضخمة ومتطورة على نحوٍ مثير للإعجاب، تماماً مثل تلك الموجودة في مدينة بومبي الرومانية جنوب إيطاليا.
شيَّدها الإمبراطور تراجان
في وقت كانت فيه الإمبراطورية الرومانية قوية للغاية وممتدة لمسافات شاسعة أسس الإمبراطور تراجان مدينة تيمقاد، التي كانت تُعرف آنذاك باسم "تاموقادي" أو "تاموقاس" أو "تاموغاس"، في العام 100 وقد جعلت هذه المدينة تراجان أحد أقوى الرجال في العالم كونها كانت تحمي طرق التجارة في شمال إفريقيا، التي كانت حاسمة لتداول الحبوب في جميع أنحاء الإمبراطورية.
وهو السبب الأساسي الذي دفع تراجان إلى إنشاء المدينة تحت ظلال جبال الأوراس، إضافة لكي تكون مستعمرة تقاعد للجنود الذين يعيشون في مكان قريب وفقاً لما ذكره موقع Messynessychic.
في غضون بضع سنوات توسعت البؤرة الاستيطانية للمدينة لتشمل أكثر من 10 آلاف من السكان من أصل روماني وإفريقي وأمازيغي.
أما من ناحية شكل المدينة المعماري فقد أبدى خبراء معاصرون إعجابهم الشديد بالتخطيط الشبكي للمدينة عند اكتشافها لأول مرة.
إذ صُمّمت المدينة على شكل مربع ينقسم إلى شارعين رئيسيين، أحدهما يمتد من الشمال إلى الجنوب والآخر من الشرق إلى الغرب، كما بُني ميدان عام عند تقاطع الشارعين.
تأمين المدينة
أدرك تراجان أنَّه بحاجة إلى وجود قوات عسكرية في تلك المنطقة البعيدة جداً عن روما لحماية الحدود الجنوبية للإمبراطورية من هجوم الأعداء، لذا، تمركز الفيلق الأوغسطي الثالث في المدينة للدفاع عنها.
كان تراجان يُسرّح حوالي 200 جندي من الخدمة العسكرية كل عامين ويمنحهم قطعة أرض في تيمقاد وما حولها، لذا أصبحت تيمقاد موطناً للجنود المتقاعدين الذين يستطيعون مواجهة المعتدين إذا لزم الأمر.
احتوت على كل مرافق الراحة للمواطنين
على الرغم من موقعها في وسط صحراء إفريقيا، فإن مدينة تيمقاد احتوت على جميع المرافق الأساسية ووسائل الراحة اللازمة لمواطنيها.
على سبيل المثال، كانت المدينة تضم مكتبة ضخمة ومسرحاً وكاتدرائية وعشرات الحمّامات العامة، إضافة إلى قوس ضخم شُيّد خصوصاً لتخليد انتصارات الإمبراطور تراجان- ويُعرف باسم "قوس تراجان".
وظلت تيمقاد مدينة مزدهرة ذات تعددية ثقافية ودينية لفترة طويلة، وبحلول القرن الـ8، تخلّت عنها الإمبراطورية وهجرها سكانها وتقدّمت الصحراء الكبرى لتلتهم المدينة ببطء وتدفنها تحت رمالها حتى وصل مغامر أسكتلندي إلى المنطقة.
تفاصيل اكتشاف مدينة تيمقاد
في عام 1763، جاء المغامر الأسكتلندي جيمس بروس إلى منطقة شمال إفريقيا، حيث عُيّن قنصلاً في الجزائر العاصمة، التي هي الآن عاصمة الجمهورية الجزائرية.
وعلى الرغم من كون بروس مناسباً لشغل هذا المنصب لما يتمتّع به من حماس وذكاء شديد، لم يتوافق مع رؤسائه، فأدى ذلك إلى إقالته من المنصب عام 1765.
لم يكن لدى بروس نية العودة إلى وطنه، فبدأ رحلة عبر إفريقيا برفقة الفنان الإيطالي لويغي بالوغاني.
جاب جيمس بروس ولويغي بالوغاني صحراء جنوب الجزائر بنية العثور على بقايا حضارة قديمة.
اكتشف المستكشفان بالصدفة شيئاً مذهلاً بمحاذاة جبال الأوراس في 12 ديسمبر/كانون الأول 1765، حيث وجدا أنفسهما وسط أطلال مدينة تيمقاد، التي كانت مدفونة جزئياً تحت رمال الصحراء، وفقاً لما ذكره موقع National Geographic.
أصبح المستكشفان أول أوروبيين يدخلان مدينة تيمقاد القديمة منذ قرون.
وقد كتب بروس في مذكراته الخاصة عن المدينة: "كانت بلدة صغيرة، لكنها مليئة بالمباني الأنيقة".
لم يستغرق الرجلان وقتاً طويلاً للعثور على "قوس تراجان"، الذي يبلغ ارتفاعه حوالي 40 قدماً.
لم يكن "قوس تراجان" الأثر المعماري المذهل الوحيد الذي عثر عليه بروس وبالوغاني.
صادف الرجلان أيضاً المدرج الضخم وتعرّفا على العديد من تماثيل أباطرة الرومان المشهورين المنتشرة في جميع أنحاء المدينة.
وبحسب الرجلين، كان هناك تمثال للإمبراطور أنطونيوس بيوس، إمبراطور روما خلال القرن الـ2 الميلادي، بالإضافة إلى تمثال آخر لزوجته، أنيا غاليريا فاوستينا الكبرى.
لم يبلغ بروس عن المدينة المُكتشفة بل دفن القطع الأثرية وواصل رحلته
بدلاً من أن يعود إلى بلاده للإبلاغ عمّا وجده، فعل بروس العكس، دفن كل القطع الأثرية التي عثر عليها وواصل رحلته مع بالوغاني عبر إفريقيا.
عندما وصلا إثيوبيا، زعما اكتشاف منبع النيل الأزرق رغم أنَّ هذا الأمر كان محل نقاش بين العلماء في ذلك الوقت.
وعندما عاد إلى الوطن عام 1774، شكّك كثيرون في صحة روايته بشأن اكتشافاته في إفريقيا ليبقى سر مدينة تيمقاد مدفوناً حوالي 100 عام أخرى حتى تُكتشف "رسمياً" في عام 1875 من خلال روبرت لامبرت.
ومن المفارقات، فقد عمل لامبرت أيضاً قنصلاً في الجزائر العاصمة وبدأ رحلة رائعة عبر إفريقيا ليجد ما كان يتحدث عنه بروس.
لكن المدينة التي أعلن اكتشافها رسمياً بقيت غارقة في الرمال حتى العام 1881 عندما كان الفرنسيون يسيطرون على الجزائر، الذين قاموا بالتنقيب عن المدينة المدفونة بالرمال بشكل كامل.
ومنذ ذلك الحين وعلى مدى 8 عقود لاحقة، ظلَّت أطلال تيمقاد القديمة في أيدي الفرنسيين حتى حرب الاستقلال الجزائرية.
توصّل الفرنسيون إلى عدة نتائج
خلص الفرنسيون إلى أنَّ الإمبراطور تراجان أنشأ المدينة لتكون موقعاً راقياً ينعم بالرفاهية والازدهار، وليس منطقة عشوائية في وسط الصحراء الإفريقية.
كما اكتشف الباحثون أيضاً أنَّ العديد من منشآت المدينة خضعت لعمليات تعزيز وترميم على مدار سنوات وجود المدينة.
ومن ضمن النتائج التي توصلوا إليها- أنَّ الحياة بالنسبة للمواطن العادي في تيمقاد كانت على الأرجح أفضل من معظم أجزاء الإمبراطورية الأخرى.
سقوط تيمقاد ومدن رومانية أخرى
بعد عام 370 بعد الميلاد، لم تمض الأمور على نحو جيد بالنسبة للإمبراطورية الرومانية.
فقد شقَّ الهون طريقهم ببطء إلى أراضي قبائل الفندال الجرمانية، الأمر الذي أجبر تلك القبائل على غزو أراضٍ تابعة للإمبراطورية الرومانية.
بدأت تلك القبائل الجرمانية تتدفق داخل الأراضي الرومانية واستولت على المدن المنعزلة التي وجدوها على طول طريقهم.
بدأت عمليات الاستيلاء بالمنطقة المعروفة باسم بلاد الغال قبل أن يشقوا طريقهم إلى المنطقة المعروفة حالياً باسم إسبانيا، وبعد فترة وجيزة إلى منطقة شمال إفريقيا، حيث مدينة تيمقاد.
عندما سقطت مدينة تيمقاد في أيدي القبائل الجرمانية، شعرت روما بفداحة خسائرها وبدأت الإمبراطورية بأكملها في الانهيار.
فبعد سقوط مدينة تيمقاد، وجَّه الفندال أنظارهم نحو مدينة روما نفسها ونجحوا أخيراً في تحقيق هدفهم عام 455 ميلادياً ونهبوا المدينة، على الرغم من بقاء معظم الهياكل التاريخية سليمة كما هي.
وعلى الرغم من الخسائر التي تكبدتها الإمبراطورية الرومانية جراء غزو الفندال، لم تستسلم روما بسهولة.
بدأت قوات روما في إخضاع القبائل الجرمانية على أمل إعادة تأسيس الإمبراطورية التي كانت ذات يوم قوة هائلة لا يمكن مواجهتها.
فظلَّت تيمقاد ضعيفة وبعيدة للغاية عن الإمبراطورية لكي تتلقى منها المساعدات.
ومع ذلك، خاضت الإمبراطورية الرومانية حرباً ضد الفندال في عام 533 ميلادياً ونجحت في استعادة أراضيها بشمال إفريقيا. عندما وصل الجنرال الروماني إلى تيمقاد، وجد أنَّ المدينة أصبحت مهجورة تماماً.
لم ترغب روما في ترك تيمقاد مهجورة، لذا حاولت إعادة بنائها لتعود كما كانت، لكن تبدّدت كل آمال إعادة البناء عندما بدأ العرب يشقون طريقهم إلى الأراضي الجنوبية للإمبراطورية الرومانية في القرن الـ7 الميلادي.
في القرن الـ8 الميلادي، تخلّى الرومان إلى الأبد عن مدينة تيمقاد، التي كانت ذات يوم مدينة رومانية جميلة عظيمة.
وبمجرد أن هجرها الجميع، استحوذت رمال الصحراء الكبرى على المدينة ولم يمض وقت طويل حتى غطت الرمال كل هندستها المعمارية الرائعة ومنشآتها العامة الفاخرة.
أما اليوم فتعتبر تيمقاد إحدى المدن المدرجة القديمة في قائمة مواقع التراث العالمي الخاصة باليونسكو، كما أنها موقع جذب سياحي لكثير من السياح.