عاشت الملكة ماوية حياتها على ظهور الخيل وفي ساحات المعارك، وكان لسلاحها قوة مرعبة أجبرت الإمبراطورية الرومانية على الاستسلام والانصياع لشروط ملكة الصحراء العربية.
امتلكت ماوية أو "مافيا"، كما تم ذكرها في المصادر الأجنبية، حنكة سياسية وقدرات عسكرية أهَّلتها لتشكِّل قوة لا يستهان بها في منطقة البحر الأبيض المتوسط، ولم تعش في ظل زوجها الملك، بل صنعت مجدها الخاص.
على الرغم من عدم وجود كثير من الأدلة الأثرية على حياتها، فإن قصة الملكة المحاربة التي عاشت في أواخر القرن الرابع الميلادي، قد نجت عن طريق الحكايات التي تناقلها سكان المنطقة ثم وثقها المؤرخون لاحقاً، لنرويها لكم اليوم:
الملكة ماوية.. ملكة الصحاري والواحات
ينتمي أسلاف ماوية إلى التنوخيين، وهم قبائل عربية هاجرت إلى شمالي شبه الجزيرة العربية وأسسوا هناك مملكة باتت تُعرف فيما بعد بـ"مملكة تنوخ".
وقد تربعت ماوية على عرش مملكة تنوخ إلى جانب زوجها معاوية الهواري، الذي توفي عام 375، تاركاً مملكته في حماية زوجته.
لم تعش ماوية في ظل زوجها الملك قط، فقد كانت محاربة لا يشق لها غبار، وقد أثبتت بسالتها عندما أصبحت الحاكمة المطلقة لمملكة تنوخ التي تضم قبائل عربية متوزعة في شمالي شبه الجزيرة العربية وأجزاء من سوريا والأردن.
في ذلك الوقت كان فالنس هو حاكم الإمبراطورية الرومانية، وقد كان أحد أتباع الطائفة الأريوسية (مذهب مسيحي لم يعد له وجود اليوم)، واضطهد الكاثوليك والأرثودوكس.
وعندما توفي الهواري، اعتقد الإمبراطور الروماني أن غزو مملكة تنوخ وتنصير شعبها ونشر تعاليم طائفته هناك سيكون أمراً هيناً، لكنه على ما يبدو كان مخطئاً للغاية.
ماوية تتبع تكتيكات عسكرية لترضخ أعداءها
يُعتقد في الغالب أن أسباب ثورة التنوخيين بقيادة ملكتهم ماوية على الإمبراطورية الرومانية كان دينياً في الغالب.
عندما دق ناقوس الخطر كانت الملكة التنوخية مستقرة في حلب، وقررت على الفور الانسحاب من المدينة إلى الصحراء حيث يسهل عليها هزيمة أعدائها.
هناك شكلت مافيا تحالفات مع عدة قبائل واكتسبت الدعم في معظم أنحاء شبه الجزيرة العربية وسوريا، استعداداً للقتال ضد الحكم الروماني.
وفي ربيع عام 378، أطلقت مافيا تمرداً هائلاً ضد الإمبراطورية الرومانية، وغالباً ما يتم مقارنته بتمرد ملكة تدمر زنوبيا التي سبقت ماوية بقرن من الزمن.
لكن عكس ملكة تدمر، قادت الملكة ماوية جميع غزواتها بنفسها وشاركت في القتال إلى جانب رجالها، واجتاحت قواتها شبه الجزيرة العربية وفلسطين ووصلت إلى أطراف مصر، هازمةً الرومان في كل معركة خاضتها ومستخدمةً تكتيكات حرب العصابات الكلاسيكية، إذ اعتمدت على شن الغارات المباغتة والكر والفر، مُحبطةً كل المحاولات الرومانية لوأد التمرد.
أثبتت مافيا وقواتها أنها متفوقة على القوات الرومانية، ونالت استحساناً بين سكان المدن التي وصلت إليها، وبدا كما لو أن الشرق الروماني بأكمله مهدد بالانفصال عن الإمبراطورية لتحكمه الملكة العربية.
ومع تزايد خطر ماوية على الرومان قرروا أخيراً التوقف عن النزال والدعوة إلى المفاوضات.
بين الوثنية والمسيحية
يقترح بعض الباحثين أن الملكة ماوية كانت مسيحية أرثوذكسية، ولذلك حاربت فالنس الذي اضطهد الأرثوذكس، لكن لا توجد أي أدلة على ذلك.
وقد يكون هذا الافتراض مبنياً على خلفية لقاء ماوية براهب عربي أرثوذكسي يدعى موسى، يقال إنه دعاها إلى المسيحية. لكن يشكك الكُتاب الرومان في ذلك ويعتقدون أن الملكة كانت وثنية، وقد تكون اعتنقت المسيحية فيما بعد.
بطبيعة الأحوال فقد سجل مؤرخو الكنيسة مآثر الملكة ماوية، التي انحازت إلى الأرثوذكسيين حتى لو كانت وثنية، فعندما استسلم الرومان أمام جيوشها وعرضوا الهدنة عليها، اشترطت الملكة التنوخية أن يُرسّم الراهب الأرثوذكسي موسى أسقفاً على شعبها وإلا فستستمر في حربها مع الرومان إن هم أصروا على نشر الأريوسية.
ما بعد الانتصار
بناء على شروط ماوية، تم تعيين موسى كأول أسقف عربي للعرب، وبدأت الكنيسة العربية في الظهور بالشرق الروماني، وجذبت عديداً من التنوخيين من بلاد ما بين النهرين.
كما استعادت الملكة ماوية الامتيازات التي تمتع بها التنوخيون قبل حكم جوليان للإمبراطورية الرومانية، ولتدعيم تحالفاتها الجديدة زوَّجت ابنتها بقائد نيقية الروماني فيكتور، كما أمدت الروم بالمساعدة في حربهم مع القوط.
ويُذكر أن المنطقة العربية عاشت فترة من السلام في عهد ماوية التي توفيت في أناسارثا شرقي حلب حيث يوجد نقش يسجل وفاتها هناك عام 425 م.
الملكة ماوية بين الحقيقة والأساطير
لم يكن من السهل الحصول على أي أدلة أثرية تدعم وجود الملكة ماوية، فعكس الملكات اللواتي عشن في القصور وملأت تماثيلهن الحدائق والساحات العامة، عاشت ماوية بالخيام وكان قومها من البدو الرُّحّل الذين لم يخلفوا آثاراً وراءهم ولم يكونوا يفضّلون الكتابة عن أنفسهم، وفقاً لما ورد في موقع Ancient History.
لكن مع ذلك فقد خلدت قصة الملكة العربية في القصص والحكايات، وتحدث عنها عدد من المؤرخين، إلا أن قصتها اختلطت مع قصص حاكمات أخريات، من ضمنهن زنوبيا، الأمر الذي جعلنا غير متأكدين من تفاصيل حكايتها.
وقد كان الأثر المادي الوحيد الذي يدل على الملكة ماوية، هو ذلك النقش الذي وُجد بالقرب من أناسارثا شرقي حلب والذي يعود إلى عام 425.
وعلى الرغم من قلة الأدلة الأثرية، يتفق معظم الباحثين على أن تلك الملكة الغامضة كانت شخصية حقيقية وحاكمة قوية وواحدة من أكثر النساء تأثيراً في العالم العربي القديم.