عُرف الفايكنغ دائماً باعتبارهم شعوباً متوحشة أبادت العديد من الشعوب الأوروبية. وظهروا في مشاهد عديدة وهم يسرقون وينهبون ثم يرحلون، كما أنهم يظهرون دائماً على أنهم وثنيون. في الحقيقة لم يكُن ذلك كله صحيحاً، فقد كان العديد من قادة وشعوب الفايكنغ يحظون بالاحترام وسط الشعوب الأوروبية.
كما تحوّل الفايكنج لاحقاً إلى المسيحية واعتمدوا اللغة الفرنسية لغةً لهم. وهكذا ارتبط بالفايكنغ عدة أساطير الكثير منها غير صحيح. إلا أن قوة جيشهم وبالأخص الأسطول هو المؤكد تاريخياً وهو ما سنتحدث عن أحد فصوله المثيرة للدهشة، والتي ربما لا يعلم عنها الكثيرون، فالحرب كانت مع دولة المسلمين في الأندلس!
النورمان أو النورمانديون – وتعني رجال الشمال- والمعروفون باسم الفايكنغ، ظهروا في القرن الثامن الميلادي والذين كانوا في الأصل قراصنة من الدنمارك والنرويج وأيسلندا، والذين بدأوا في شن غاراتٍ على المدن الساحلية الأوروبية، واستقر بعضهم في شمال فرنسا، وأسسوا دوقية نورماندي وأرسلوا حملاتٍ للغزو والاستعمار إلى جنوب إيطاليا وصقلية وإلى إنجلترا وويلز وأسكتلندا وأيرلندا، واصطدموا بدولة المسلمين في الأندلس، إلا أنهم لم يستطيعوا احتلالها.
هجوم النورمان الأول على الأندلس
يشير محمد عبدالله عنان في موسوعته (دولة الإسلام في الأندلس) إلى أن النورمان ظهروا في مياه الأندلس لأول مرة عام 843 أيام الخليفة عبدالرحمن بن الحكم المعروف باسم عبدالرحمن الأوسط. لذا، بدأت حكومة قرطبة تعتني بشأن الأسطول ومضاعفة استعداداتها البحرية.
كان أولئك الغزاة النورمان في هذه المرة من أهل الدنمارك ويقودهم ريتشارد الأول دوق نورماندي، وحفيد زعيمهم الكبير رولو. وكانت عدة أسطولهم ثمانية وعشرين مركباً.
نزل الغزاة على مقربةٍ من بلدة قصر أبي دانس، والمعروفة الآن بـ"الكاسر دو سال" في البرتغال على نهر سادو، ثم زحفوا شمالاً إلى لشبونة- عاصمة البرتغال الآن- وعاثوا فيها تخريباً ونهباً، واجتمع المسلمون في تلك المنطقة لقتالهم. ونشب بينهم قتال دامٍ قُتل على إثره الكثير من الجند في الفريقين.
وفي تلك الأثناء خرج أسطول إشبيلية- في إسبانيا- من نهر الوادي الكبير وسار على عجلٍ إلى شاطئ البرتغال الجنوبي، وكان الغزاة قد انحدروا عندئذ جنوباً، ووقع اللقاء بين سفنهم وبين سفن المسلمين عند مصب نهر شِلْب.
حطّم المسلمون العديد من سفن الغزاة، وأنقذوا من كان بها من أسرى المسلمين، وقُتل كثير من النورمان، وعادوا منهزمين عن مياه الأندلس، بيد أن سفنهم ظلت تظهر من حين لآخر في المياه الغربية، لكن ظل الأسطول الأندلسي متأهباً لهم بالمرصاد أينما ظهروا.
هجوم النورمان الثاني أيام الحَكَم المستنصر
عادت مراكب النورمان للأندلس مرة أخرى عام 971، وكان العهد عهد قوة الأندلس أيام الخليفة الحَكَم المستنصر.
ويقدم إلينا عبدالله عنان في موسوعته، قصة هذا الهجوم الثاني للنورمان على شواطئ الأندلس، إذ أمر الحَكَم أمير البحر عبدالرحمن بن رماحس بتسيير الأسطول من ألمرية وإشبيلية، واجتماع قوى الأندلس البحرية كلها لمواجهة الغزاة، كما عهد إلى الوزير القائد غالب بن عبدالرحمن بأن يشرف على القوات البرية والبحرية التي أُعدت لصد أولئك الغزاة، وأمر صاحب الخيل والحشم زياد بن أفلح بإخراج السلاح والعدة، وحشد قوة مختارة من الجند.
بيد أنه لم تقع أية معارك بين المسلمين والغزاة، ولم يحدثنا عنان عن وقوع أي من المعارك، إذ إنهم ارتدوا من تلقاء أنفسهم لمَّا رأوا تفوق قوى المسلمين.
ويبدو أنَّ هذا الهجوم كان هجوماً سريعاً، فقد كان الفايكنغ عادةً ما يغزون منطقة لينهبوها ولكنّهم لا يستقرّون كثيراً فيها، ولم تكن لهم دول بالمعنى المفهوم حينها، ما يعني أنّ الصراع لم يكن صراعاً بين دولتين.
في ذلك التوقيت كانت قرطبة حاضرة الأندلس ومركزها كما كانت كعبة لملوك إسبانيا المسيحيين الذين قدموا إليها عهود الطاعة متلمّسين منها الصداقة والعون. وقد بدأ تقاطر هذه الوفود والسفارات من سنة 966 وزادت بعد صد الأندلسيين للنورمان.
يذكر لنا عنان أن أول الوافدين على قرطبة من أمراء الإسبان كان أمير جليقية، ثم وفدت رسل سانشو غرسية ملك نافار، وهم جماعة من الأساقفة يسألون الصلح، فلبى لهم الحَكَم ما طلبوا.
كما جاءت سفارة من أمير برشلونة الكونت بوريل بن شونير وعلى رأسها مبعوثه الأسقف بون فلي لتجديد المودة والصداقة، ومعهم ثلاثون أسيراً من المسلمين الذين كانوا محتجزين عندهم تقرباً من الحَكَم، فاستقبلهم الحَكَم، وقبل منهم ما أرادوا.
كذلك وفدت الراهبة إلبيرة عمة ملك ليون راميرو الثالث والوصية عليه فقوبلت في قرطبة بمظاهر الترحاب والتكريم، واحتفل الحَكَم عند استقبالها بقصر الزهراء وعقد السلم مع ملك ليون تحقيقاً لرغبتها، وأغدق عليها الهدايا وحملت على بغلة الكثير من الذهب.
كانت كل هذه الوفود في نفس العام الذي ردّ فيه أسطول الأندلس مباغتة النورمان لشواطئ الأندلس؛ وهكذا كان رجوع النورمان من حيث أتوا وانتصار الأندلسيين عليهم سبباً في خطب ودّ العديد من أمراء وملوك أوروبا، وعرض الصلح والسلام مع الحَكَم وهو ما لم يستمر طويلاً، إذ انتهت دولة الأمويين في الأندلس في عهد هشام بن الحَكَم ثم تبعتها الدولة العامرية التي قُسِّمت الأندلس بعدها بأعوامٍ قليلة من نشأتها بين ملوك الطوائف، وعادت من جديد أطماع ملوك أوروبا في ديار الأندلس مرة أخرى.