رفض تسليم مدينته وظل يقاوم حتى النهاية.. تعرَّف على القائد الأندلسي الذي دافع عن مالقة وحيداً

تتابع سقوط المدن، وتتابعت معها قصص الصمود والتمسك بالأرض والدفاع عنها. ونتناول في هذه المادة إحدى هذه القصص، وهي قصّة بطل مسلم ربما ليس مشهوراً بما يكفي.

عربي بوست
تم النشر: 2021/02/13 الساعة 15:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/04/06 الساعة 13:28 بتوقيت غرينتش
مدينة مالقة الإسبانية /IStock

في 18 أغسطس/آب من كل عام؛ يحتفل مجلس مدينة مالقة الإسبانية بذكرى استيلاء الملك فرنانديو الثاني والملكة إيزابيلا الأولى على مالقة، وهي آخر الحصون الهامة التي سقطت قبل سقوط غرناطة وانتهاء وجود المسلمين في الأندلس.

يعتبر سقوط مالقة أيضاً أحد أكثر الأحداث قسوة في تاريخ سقوط الأندلس، ولم يكن هذا الوصف من قبل أحد المؤرخين المسلمين أو المهتمين بالشأن الموريسكي فقط، بل كان هذا التوصيف هو توصيف أحد أكبر الأحزاب السياسية الإسبانية وهو حزب الشعب، والذي أظهر رفضه الشديد لإحياء ذكرى هذه الأحداث الوحشية، كما وصفها بيان الحزب.

وعلّق الحزب على هذه الذكرى بقوله: "نعتقد أنه مثلما لا أحد يقوم بإحياء ما حدث في معسكرات الاعتقال النازية بالاحتفال والمرح، فلا ينبغي أن يكون لدينا احتفال لإحياء ذكرى حصار مالقة". كما اعتذر الحزب عن هذه الأحداث المأساوية والتي كانت كارثة إنسانية، على حد وصفه.

مدينة مالقة
مدينة مالقة القديمة / Wikimedia.commons

ومع سقوط الأندلس وانتقال الحكم فيها من المسلمين للقشتاليين، كثرت قصص الاضطهاد والقمع وتتابع سقوط المدن، وتعددت معها قصص الصمود والتمسك بالأرض والدفاع عنها. ونتناول في هذه المادة إحدى هذه القصص، وهي قصّة بطل مسلم ربما ليس مشهوراً بما يكفي، هو حامد الثغري.

انقسام غرناطة وحصار مالقة وظهور القائد الصامد

في عام 1487م تحرَّك الملك أبوعبدالله محمد الثاني عشر الملقب بـ"الملك الصغير"- أحد ملكي غرناطة التي قُسِّمت بينه وبين عمه- ليقاتل عمه أبوعبدالله محمد الثالث عشر الملقب بـ"الزغل"، وهنا أسرع القشتاليون بالتوجه نحو غرناطة لدخولها، استغلالاً للصراع. 

لما وصلت أنباء التحرُّك القشتالي، سارع أعيان غرناطة وتوسطوا بين العمّ وابن أخيه لكي يعقدوا صلحاً ويتجنَّبوا القتال؛ ليتفق الطرفان على تقسيم غرناطة إلى قسمين في الوقت الذي توحَّدت فيه مملكتا أراغون وقشتالة بزواج الملك فرناندو والملكة إيزابيلا. 

ومن جديد ازداد النزاع ونشب القتال واحتدم الصراع مرة أخري بين الزغل وابن أخيه الملك الصغير.

انتهز فرناندو فرصة عودة القتال بين طرفي غرناطة وتقدَّم ليحاصر مدينة مالقة، في أقصي الجنوب على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وتعد من أهم المدن الجنوبية، وذلك في عام  1488م.

ضيّق فرناندو على أهل مالقة وشدّد الحصار عليهم، فتشاور الأعيان وفي مقدمتهم قائد المدينة وكبير التجار علي دردوق ووصلوا إلى اتفاقٍ على تسليم المدينة، حين أيقنوا أنه لا جدوى من المقاومة حيث طُوِّقت المدينة من البر والبحر بقوات فرناندو الكبيرة، ومنعت عنها المؤن والطعام والمدد، فذهب كبير التجار واتفق على تسليم المدينة، وهنا ظهر قائدٌ من عامة الشعب من المدافعين عن المدينة والذي رفض تسليم مدينته مالقة.

حامد الزغبي والصمود الكبير

إنه حامد الزغبي الذي عرف أيضاً باسم حامد الثغري. من المقاتلين الذين دافعوا عن مدينة مالقة. رفض أن يستسلم هو أو أن تستسلم المدينة، فأعلن مقاومته واستجاب له فرسان كثيرون ورجال أبدوا استعدادهم للمقاومة، فأرسل له التجار المفاوضون على تسليم المدينة تاجراً يغريه ليقبل بالاستسلام، مقابل أن يدفعوا له 4 آلاف دينار، فقال جملته الشهيرة: "إني تسلّمت المدينة لأحميها لا لأسلّمها".

استطاع حامد الزغبي أن يسيطر على الموقف لبعض الوقت، وبدأ الجيش القشتالي في قصف المدينة بالأنفاط. والأنفاط هي قطع صخرية نفطية مشتعلة ناراً، فتُهلك من نزلت عليه وتحرقه.

اشتدّ هجوم القشتاليين على أبراج المدينة فصدّهم المقاتلون مراراً، لكنّ القشتاليين استطاعوا في النهاية أن يحتلوا برجاً من أبراج المدينة، فأمر الزغبي بالحفر تحته وأشعلوا فيه النيران. وبالفعل نجحت خطة الزغبي، فقد سقط البرج بمن فيه.

رفض حامد الاستسلام وظل يقاوم ويقاتل، وكان الجيش القشتالي قد صنع أبراجاً خشبية يقرّبونها من الأسوار ليقفزوا داخل المدينة، وقد تصدّت المقاومة التي قادها حامد لهذه الهجمات مراراً. 

لكنّ سلاحاً آخر كان يمتلكه القشتاليون: سلاح الجوع. فمع الوقت قلّت المؤن ونفد الطعام، واشتد الجوع بأهل مالقة المحاصرين، فأرسل كبير التجار رسولاً إلى فرناندو مرةً أخرى لكي يعطيهم الأمان، فأعلن فرناندو أن الأمان لأهل مالقة إذا هم سلَّموا المدينة.

وقد منع المقاومون الرسول الذي جاء بقرار فرناندو من دخول المدينة، وأرسل الملك الزغل (عم الملك الصغير) إلى المقاومين يحضّهم على هذا الثبات وأخبرهم أنه قادم مع جيشه مدداً لهم.

مالقة
مدينة مالقة / IStock

الملك الصغير يخون المسلمين

كان الصراع السياسي بين الملك الصغير وعمه الزغل على أشدّه، فحدثت الخيانة الكبرى حين شعر الصغير بأن انتصار مالقة خطرٌ على "نصف المملكة" التي يحكمها، وأن شأن عمّه سيعلو إذا نجحت مالقة بصد هجوم فرناندو بالتعاون مع عمه الزغل، وسيهدد هذا ملكه.

رأى الصغير أن مصلحته تكمن في سقوط مالقة! وعندئذٍ أرسل الصغير جيشه لمنع جيش الزغل من الوصول إلى مالقة لنجدتها، فنشب القتال بينهما وانتهت نتيجة القتال لصالحه. كان هذا الموقف بالطبع بشرى خير لفرناندو. 

انتشر الخبر وذاع، وكان له أثر سلبي على المقاومين بالطبع، فالنجدة التي كانت ستصلهم لن تصل. إلا أن العديد من المدن الصغيرة المحيطة بمالقة انتفضت لنجدتها، من بينها أهل مدينة "آش" المحاذية لمالقة. 

وتذكر بعض المرويات قصّة أحد علماء المدينة الذي كان يُعرف باسم "إبراهيم السانتو" ومعه 400 رجل تجهزوا لدخول المدينة ومساعدة أهلها. 

في ذلك التوقيت دخل بعض القشتاليين المدينة فأقدم السانتو على حيلة، إذ سجد ومكث في سجوده طويلاً حتى أسره المهاجمون، وجاءوا به إلى قائدهم، فقال له القائد القشتالي: اسألوه ما شأنه؟ فأجابوا: أنه ولي من أولياء الله وعنده سرٌّ يريد أن يبوح به للملك، وظنّ السانتو أن هذا القائد هو الملك، فلما قربوه منه هجم عليه بخنجرٍ معه كان يخفيه فقتله، ثم هجم علي زوجته وهو يظنها الملكة إيزابيلا، فهجم عليه الحراس فقتلوه.

اشتداد الحصار واستبسال حتى الرمق الأخير

ضيَّق المهاجمون القشتاليون على المدينة أكثر فأكثر وأحرقوا جسراً على أهم طريق للمدينة، وقد قُتل من المسلمين عددٌ كبير، ما جعل معظم التجار يتوسلون لحامد الثغري أن يستسلم "حفاظاً على دماء الناس".

وتمكّن جيش فرناندو على غفلةٍ من اقتحام جزء من المدينة في النهاية، ولكنّ الزغبي ومن معه من المقاتلين تصدوا لهم حتى طردوهم خارج أسوار المدينة.

وفي أحد الأيام أصيب الزغبي بحجرٍ من أحجار المنجنيق وسقطت الراية من يده، وظن أهل مالقة أن الأمر قد انتهى، فأرسلوا مرةً أخرى لفرناندو يطلبون التسليم بشرط الأمان.

لكنّ فرناندو أصرّ أن يكون الاستسلام دون شروط، فأرسل أهل مالقة إلى فرناندو خبراً مفاده أنه يوجد لدينا 1500 أسير من فرسانك، فإن لم ترض بالشرط الذي نريده، سنقتل هؤلاء فوراً على الأبراج، ونحرق المدينة ونأتيك بالسيوف، وعند ذلك قبل فرناندو  تسليم الأسرى بشرط الأمان.

لكن الزغبي كان لا يزال حياً، فتحصّن بالمنارة مع نفر معه يرفضون الاستسلام، وظلوا يقاومون القشتاليين بعد دخولهم المدينة. 

ظل الزغبي يقاوم حتى صار وحيداً بعد أن قُتل من معه جميعاً، فأُسر وأُخذ إلى فرناندو واختلفت الروايات في مصيره، فالبعض يقول إنّ فرناندو قد اتخذه خادماً، وبعض الروايات الأخرى تقول إنّه وضع في السجن حتى مات فيه. 

سقطت المدينة في نهاية الأمر، ودخل فرناندو المدينة دخول الفاتحين. سبى الجيش المنتصر النساء والأطفال، ونهب الأموال، واسترقّ الملك كل أهل المدينة. وأصدر قراراً أنّ كلّ فردٍ من أهل مالقة يجب أن يفتدي نفسه بالمال ليصير حراً. وهو هذا الحديث الذي يحتفل به مجلس مدينة مالقة في عصرنا الحالي ويرفضه حزب الشعب الإسباني.

يقول الحزب في بيانه: "على الرغم من أن مدينة مالقة استسلمت في 18 أغسطس/آب عام 1487 إلا أن الملوك الإسبان وقوّاتهم لم يستطيعوا دخول المدينة حتى اليوم التالي، وذلك بسبب الرائحة النتنة الناتجة عن الجثث المتحللة في شوارع المدينة". وتجدر الإشارة إلى أن حوالي 11 ألفاً من أهل مالقة اُتخذوا عبيداً وعرضوا على بابا روما في ذلك الوقت، طبقاً لما أورده بيان الحزب. 

أمّا عن الملك الصغير، فلم يمهله القشتاليون كثيراً، فقد سقطت غرناطة، آخر ممالك المسلمين في الأندلس عام 1492، أي بعد سقوط مالقة بأقل من 5 سنوات.

تحميل المزيد