توفي البروفسور السوداني مالك بدري صباح الاثنين 8 فبراير/شباط 2021 عن عمرٍ يناهز 89 عاماً، تاركاً وراءه إرثاً من الكتب والمؤلفات التي أسست لفهم منهجي لعلم النفس من منظور إسلامي.
انضم البروفسور بدري في وقت مبكر إلى عدة جماعات إسلامية، ثم أسس جماعة "الغرباء" بعد ذلك، قبل أن يعتنق التصوف، وحاز على أرفع الدرجات العلمية في مضمار علم النفس وقبع شهوراً في سجون النظام بعد انقلاب جعفر النميري.
فيما يلي نستعرض أبرز محطات حياة عالم النفس الراحل.
البروفسور مالك بدري.. من "هندسة الطيران" إلى الجامعة الأميركية ببيروت
كان البروفسور السوداني الراحل يحلم بدراسة هندسة الطيران، وعندما أتم دراسته الثانوية تم قبوله بالفعل في هذا القسم، إلا أن والده الشيخ بابكر بدري اعترض على ذلك، فاضطر مالك للتسجيل في قسم الجغرافيا والرياضيات والفيزياء في جامعة الخرطوم.
من الطرائف التي يذكرها الراحل عن أيامه الأولى في دراسته الجامعية، أنه كان يدرس في ذلك القسم مع 3 طلاب آخرين فقط، ومع نهاية السنة الاولى انسحب أحدهم ورسب الاثنان الآخرون، ولم يتبق غيره في القسم، فكانت جامعة الخرطوم تستخرج جدولاً للدراسة والامتحانات له وحده.
لكن في السنة الثانية من دراسته، حصل مالك بدري على منحة من الجامعة الأميركية في بيروت، فتوجه إلى لبنان في العام 1953 ليدرس العلوم والآداب.
نهج الجامعة الأميركية دفع مالك بدري نحو الاتجاه الإسلامي
وفقاً لما ورد في سيرة بدري، فقد اتجه منذ بداية دراسته الجامعية نحو الاتجاه الإسلامي بسبب نهج الجامعة الأميركية التي أجبرت الطلاب على حضور محاضرات في الكنيسة، ودرست "الفلسفة الإسلامية" من منظور الكندي وابن سينا وركزت على وقائع معينة دون غيرها في التاريخ الإسلامي.
فقد كانت مادة "الفلسفة الإسلامية" مقررة على جميع الطلاب بمختلف تخصصاتهم، وهي مادة تركز على بعض الأفكار الفلسفية لفلاسفة قدامى مثل الكندي وابن سينا وغيرهم من الذين كفّرهم الإمام الغزالي لإنكارهم البعث الشامل لجميع الأحياء، ومقارنتهم بين الفلاسفة والأنبياء – بحسب عالم النفس الراحل –
وعند دراسة التاريخ الإسلامي في الجامعة الأميركية، كانت المناهج تركز على الأمراء الذين عرفوا بالمجون وشرب الخمر، كما تركز على الأحداث التي حارب فيها المسلمون بعضهم بعضاً مثل واقعة الجمل.
فضلاً عن ذلك، فقد أجبرت الجامعة – التي كانت في ذلك الوقت تبشيرية مسيحية -، جميع الطلاب على حضور محاضرات في كنيسة الجامعة يقدمها بعض الأساتذة المسيحيين حسب مذكرات بدري.
كما تجاهلت مقررات مثل "الحضارة الإنسانية"، فضل العلماء المسلمين وإسهاماتهم في مجال العلوم والطب والفلك، بالرغم من أنها تبحث في الحضارة الإنسانية منذ بدء الخليقة وحتى العصر الحديث.
استفز كل ذلك مشاعر مالك بدري الذي لجأ إلى الكتب وقرأ أكثر وأكثر عن الإسلام و المسيحية، وراح يناقش أساتذته بحدة بما يقرأ، وفي النهاية لم يتمكن من إقناع أي من أساتذته بوجهة نظره إلا أنه انتهى بإقناع نفسه – وفقاً لما ورد في سيرته الذاتية -.
"الإخوان المسلمين" ثم "الغرباء" وأخيراً "التصوف"
عندما التحق البروفسور مالك بدري بالجامعة الأميركية، لم يكن فيها من السودانيين سوى الدكتورعلي شبيكة، الذي أصبح لاحقاً نقيباً للصيادلة وشاعراً معروفاً.
ومنذ عامه الأول في الجامعة انضم مالك بدري إلى جماعة "الإخوان المسلمين" التي كانت مكونة من مجموعة من الطلبة الإرتريين والإثيوبيين والأردنيين والسوريين.
لكن في عام 1969 وخلال أحد المؤتمرات العامة للجماعة، وقع خلاف بين بدري والدكتور حسن الترابي وجماعته، فاستقال من المكتب التنفيذي.
بعد استقالته أسس بدري جماعة "الغرباء" مع مجموعة من أصدقائه الرافضين لنهج الترابي في التقليل من شأن التربية والاهتمام بجمع الناس، وما لبثت أن كبرت الجماعة التي كان بدري أميرها في البداية لتشمل العديد ممن كانوا سابقاً في صفوف الإخوان المسلمين.
بعد ذلك توجه البروفسور بدري إلى التصوف، ويعتقد أنه اتجاه، مؤسس جماعة "الإخوان المسلمين"، الإمام حسن البنا نفسه.
منحة لدراسة الماجستير ثم الدكتوراة
تخرج البروفسور من الجامعة الأميركية في العام 1956 بدرجة إمتياز، ليحصل بعد ذلك على منحة لدراسة الماجستير كذلك في الجامعة الأميركية في بيروت، وما إن انتهى من دراسة الماجستير حتى حصل على منحة من المجلس البريطاني لدراسة الدكتوراة لكن هذه المرة في مدينة لستر البريطانية، ليتخرج في العام 1961 بعد تقديم أطروحة بعلم النفس.
ويذكر البروفسور أن فترة دراسته للدكتوراة كانت شاقة للغاية، فقد رصد له المجلس البريطاني مبلغ ثلاثين جنيهاً في الشهر، وكان عليه السفر دورياً من لستر إلى ليدز ليقابل الدكتور الذي يساعده في أطروحته. وبسبب ارتفاع ثمن تذاكر القطار، اشترى دراجة بخارية بعشرين جنيهاً وكان يسافر بها مسافة مائة وعشرة ميل في كل مرة يتوجه فيها إلى ليدز.
أسس قسم علم النفس في الجامعة الأردنية وتخصص في علم النفس الإكلينيكي
بينما كان البرفسور بدري يدرس الدكتوراة في بريطانيا، عرض عليه أن يعمل في الجامعة الأميركية في بيروت بعد تقديم أطروحته لكنه تجاهل هذا العرض بالرغم من كون مرتبه مرتفع للغاية بسبب رغبته في العمل في معهد المعلمين في السودان.
لكن رغبة بدري لم تتحقق بالرغم من كونه يحمل أعلى الشهادات في علم النفس والتربية، وذلك بسبب وجود بغض دفين للإخوان المسلمين ولكل من سلك طريقهم، لذا قبل البروفسور العرض في الجامعة الأميركية وعمل أستاذاً هناك لمدة عام.
تلقى بعد ذلك خطاباً من المراقب العام للإخوان في الأردن يرجوه فيه أن يستقيل من الجامعة الأميركية ويأتي لتأسيس قسم علم النفس في الجامعة الأردنية وهذا ما كان.
بعد عام من العمل في الجامعة الأميركية عاد بدري إلى بريطانيا ليتخصص في علم النفس الإكلينيكي وعاد بعدها ليعمل فترة في الجامعة الأميركية مرة أخرى ثم توجه للعمل في جامعة أم درمان الإسلامية في السودان.
البروفسور في سجون النظام
لم يكمل البروفسور مالك بدري عاماً واحداً في السودان حتى قام جعفر النميري بانقلاب عسكري في العام 1969 واستلم إدارة البلاد، وبما أن توجهات حكومة النميري كانت يسارية فقد ألقي القبض على كثيرين ممن عرف عنهم انضمامهم إلى الإخوان المسلمين بمن فيهم البروفسور مالك بدري.
لم يمكث البروفسور طويلاً في السجن فقد تم إطلاق سراحه بعد أسبوعين، لكن ألقي القبض عليه ثانية في العام 1970 ليمكث هذه المرة 3 أشهر، ومن حسن حظه أن شقيقه كان على علاقة جيدة باليساريين مما سهل إطلاق سراحه في النهاية.
بعد خروجه من السجن بثلاث أعوام تقلد البروفسور منصب أخصائي التربية وعلم النفس في منظمة اليونسكو في مؤسسة التربية العملية في بحر دار بأثيوبيا، ثم عاد إلى السودان في العام 1977 ليعمل أستاذاً في جامعة الخرطوم ومنذ ذلك الحين وحتى 2004 تنقل ما بين جامعات السودان وماليزيا والسعودية وجوبا.
ومن الجدير بالذكر أن مالك بدري قد أسس وترأس الرابطة العالمية لعلماء النفس المسلمين، كما ألف ونشر العديد من الكتب باللغتين العربية والإنجليزية.