خلال 3000 عام من التاريخ المصري القديم كانت حتشبسوت ثالث امرأة تصبح فرعوناً، وأول امرأة على الإطلاق تحصل على الصلاحيات والسلطة الكاملة لهذا المنصب، ولم تأت امرأة مثيلة لها إلا بعد مرور 14 قرناً عندما اعتلت كليوباترا عرش مصر.
لم يكن صعود حتشبسوت إلى السلطة هيناً، فقد كان عليها أن تتزوج أخاها في بادئ الأمر، ثم تتحدى "مرسوم الآلهة" ثم تدعي أنها ابنة إله الشمس، وتصور نفسها فرعوناً ذكراً بلحية وعضلات لتكسب تأييد ضحاياها.
فلنتعرف على قصة هذه الملكة التي طمس ابن زوجها آثارها ولم نكتشف قصتها كاملة حتى القرن التاسع عشر:
صعود حتشبسوت إلى السلطة
كانت حتشبسوت الابنة الكبرى للفرعون تحتمس الأول وملكته أحمس، وعندما توفي والدها كان العرش ليذهب إلى حتشبسوت بلا شك لو كان الحكم يورث للنساء في مصر القديمة.
فبالرغم من وجود 24 إلهة إلى جانب 26 إلهاً ذكراً في مجمع الآلهة المصرية، وبالرغم من أن إيزيس هي أقوى معبودة في مصر القديمة، فإنه يُزعَم مع ذلك أن آلهة مصر أصدرت مرسوماً يقضي بأنَّ دور الملك لا يُسنَد إلى امرأة، ويرجح أن من فرض "مرسوم الآلهة" ذاك هم رجال الدين والسياسيون الذكور.
وبكل الأحوال كانت النتيجة واحدة: يتوجب على حتشبسوت إيجاد سبيل ما إلى العرش، وهذا ما كان.
تزوجت حتشبسوت من وريث العرش، تحتمس الثاني، وهو أخوها غير الشقيق من والدها الفرعون وإحدى زوجاته الثانويات، مع العلم أن زواج الإخوة كان شائعاً آنذاك، والهدف الأساسي منه كان الحفاظ على نقاء السلالة الحاكمة.
حكم تحتمس الثاني إلى جانب زوجته حتشبسوت ولم تكن إنجازاته كثيرة في فترة حكمه، ويقال إن قوة زوجته كانت طاغية عليه، ولم ينجب الزوجان إلا ابنة واحدة هي نفير، لذا عندما توفي الفرعون في ريعان شبابه خلفه تحتمس الثالث، ابنه الرضيع من إحدى زوجاته الأخريات، وهنا تسلمت حتشبسوت السلطة المطلقة في مصر بصفتها وصية على ابن زوجها الرضيع، وفقاً لما ورد في موقع History.
حتشبسوت تتحدى "مرسوم الآلهة"
بالرغم من حيازتها السلطة المطلقة في مصر، فإن اللقب الرسمي لحتشبسوت لم يكن "فرعون مصر" إنما كانت الملكة الوصية على الفرعون، وبقي الأمر على هذا الحال قرابة 7 سنوات عندما قررت حتشبسوت اتخاذ خطوة جريئة متحدية مرسوم الآلهة.
اختلف المؤرخون على دوافع حتشبسوت لتنصيب نفسها "فرعون مصر"، فمنهم من عزا ذلك إلى طموحها وحبها للسلطة، ومنهم من أرجع خطوتها الجريئة تلك إلى أسباب سياسية مثل تهديد فرع آخر من العائلة المالكة لعرش مصر.
وأياً كانت الأسباب، فقد آمنت حتشبسوت أن الآلهة الإناث الـ24 سيقدمن الدعم لها، لذلك تحدت القوانين السائدة ونصبت نفسها "فرعوناً" بالقوة ويرجح أن ذلك كان في العام 1478 قبل الميلاد.
لحية وعضلات وجذور إلهية.. هكذا ركزت حتشبسوت دعائم حكمها
كانت حتشبسوت ملكة ذكية استطاعت تركيز دعائم حكمها من خلال حنكتها السياسية وفهمها لطبيعة التقاليد التي تحكم المجتمع المصري.
بدأت الفرعونة الطموحة بتعيين مؤيديها في مناصب مفصلية في الحكومة وأحاطت نفسها بالمؤمنين بشرعيتها في الحكم.
ولكي لا تبدو بمظهر من تحدى أوامر الآلهة، أمرت بتصويرها كفرعون ذكر في جميع الصور والتماثيل في المعابد، فرسمت على أنها ذكر بلحية وعضلات.
ولتحظى بمزيد من الدعم والتأييد من قبل رعاياها، ادعت حتشبسوت أنها ابنة الإله آمون (إله الشمس والريح والخصوبة؛ أحد الآلهة الرئيسيين في الميثولوجيا المصرية القديمة)، وأكدت أن والدها الإله كان يرغب بتوليها عرش مصر، ولا تزال النقوش التي تصور تتويج الإله آمون لابنته فرعوناً على مصر بحضور الآلهة موجودة في الدير البحري الذي أسسته حتشبسوت بالأقصر.
ألقاب حتشبسوت ابنة الشمس وهازمة جميع البلاد
إذا كنتم قد شاهدتم مسلسل Game of Thrones الشهير وتعتقدون أن دينيرس تارغاريان أم التنانين قد حظيت بالكثير من الألقاب، فعليكم الاطلاع على ألقاب حتشبسوت التي كُتب إلى جانب اسمها:
ملك الصعيد والدلتا، ابنة الشمس، صديقة آمون حتشبسوت، حورس الذهبي، مانحة السنين، إلهة الإشراقات، هازمة جميع البلاد، التي تحيي القلوب، السيدة القوية.
إنجازات الفرعون الأنثى
في حين لم تتسم فترة حكم زوجها وأخيها تحتمس الثاني بالكثير من الإنجازات، فقد كان فرعوناً ضعيفاً ومريضاً في الغالب، ازدهرت مصر في عهد حتشبسوت، واتسمت فترة حكمها بالسلام والرفاهية، إضافة إلى قوة الجيش وازدهار العمران والرحلات البحرية العظيمة.
شيدت حتشبسوت العديد من مشاريع البناء الضخمة والطموحة، خاصة في المنطقة المحيطة بتيبس، وقد كانت أعظم إنجازاتها المعبد التذكاري الهائل في دير البحري، الذي يعتبر إحدى عجائب الفن المعماري في مصر القديمة بالإضافة إلى قصر إبريم.
كما أرسلت حتشبسوت بعثة إلى أرض "بونت" والتي كانت تسمى كذلك "أرض الله"، وذلك لجلب ثروات من تلك المنطقة التي يعتقد أنها إريتريا في العصر الحديث.
وقد نجحت البعثة نجاحاً باهراً وجلبت العديد من الثروات من تلك الأرض بما في ذلك العاج، وخشب الأبنوس، والذهب، وجلود الفهد والبخور، الأمر الذي عزز شعبية حتشبسوت، لا سيما أنها الفرعون الأول الذي يتمكن من إحضار تلك الثروات من هذه الأرض البعيدة.
كما زادت الأموال في خزانة مصر خلال حكم حتشبسوت، وخاصة بعد أن أمرت بإعادة فتح المحاجر والمناجم التي أهملت لفترة طويلة، وخاصةً مناجم النحاس والملاخيت في شبه جزيرة سيناء.
وفي حين ركزت حتشبسوت على العمران وإنعاش التجارة البرية والبحرية وتدعيم قوة الجيش وإثراء خزينة الدولة، لم تخض حاكمة مصر العديد من الحملات العسكرية، وقد كانت جميعها حملات تأديبية لبعض المتمردين، فيما عدا حملة واحدة بقيادة تحتمس الثالث تم من خلالها فتح غزة وضمها للأراضي المصرية.
قصة حب ربما عاشتها حتشبسوت مع المهندس سنّموت
تذكر بعض المصادر أن هناك علاقة عاطفية قد نشأت بين حتشبسوت ورئيس وزرائها المهندس سنموت، لكن لا يوجد العديد من الأدلة التاريخية التي تدعم تلك الروايات.
مع ذلك فقد كان سنّموت مقرباً للغاية من حاكمة مصر وهو من صمم لها معبدها الشهير في الدير البحري، وبلغ من تقديرها له أن منحته 80 لقباً.
عوضاً عن ذلك فقد تولى سنّموت تربية وتعليم ابنة حتشبسوت، الأميرة الصغيرة نفرو.
ويقال إن سنّموت كان يحب الملكة حباً شديداً لدرجة أنه حفر نفقاً بين مقبرتها ومقبرته ليكون قريباً منها في الحياة الأخرى.
أما هي فقد سمحت له ببناء مقبرته في حرم معبدها ليكون قريباً منها بعد الموت كما كان قريباً منها في الحياة، وربما لذلك كثرت الأقاويل حول علاقة حب محتملة قد نشأت بين الاثنين.
موت حتشبسوت
بعد فترة حكم قوية امتدت قرابة 21 عاماً توفيت حتشبسوت في العام 1458، لتدفن في وادي الملوك وهي في منتصف الأربعينات من عمرها.
لم يتم العثور على مومياء حتشبسوت حتى عام 2007، إذ يرجح أن المومياء قد نقلت من التابوت إما في عهد تحتمس الثالث أو عهد ابنه أمنحتب الثاني، وبعد تحليل المومياء لمعرفة أسباب الوفاة يرجح أن السرطان أو السكري كان سبباً في إنهاء حياة واحدة من أعظم فراعنة مصر.
انتقام تحتمس الثالث
كان بوسع حتشبسوت أن تبعد ابن زوجها تحتمس الثالث إلى الأبد بعد استلامها السلطة عبر قتله أو نفيه، لكنها عوضاً عن ذلك اهتمت بتربيته وتعليمه وأنشأته ليكون محارباً قوياً لا يشق له غبار.
وقد قاد تحتمس الثالث عدداً من الحملات العسكرية في عهد حتشبسوت، وبعد موتها تزوج من ابنتها واعتلى عرش مصر ليستمر حكمه ما يزيد عن 30 عاماً.
لكن تحتمس الثالث لم يرغب بأن يخلد التاريخ اسم زوجة أبيه، وفقاً لما ورد في موقع Britannica، فعمد إلى محو وتشويه معظم آثارها كما أزال اسمها من قائمة الملوك الرسمية، وفسر البعض ذلك بأنه عمل انتقامي، فيما فسره آخرون بأن تحتمس الثالث كان يرغب أن يذكر التاريخ اسمه واسم أبيه وجده الفرعون على أنهم ثلاثة ذكور حكموا عرش مصر دون مقاطعة أنثى.
وبسبب ما فعله تحتمس الثالث ظلت حتشبسوت طي النسيان حتى عام 1822 عندما استطاع علماء الآثار فك رموز الكتابة الهيروغليفية الموجودة على جدران الدير البحري.
في البداية، تسبب التناقض بين اسم الأنثى والصورة الذكورية في حدوث ارتباك لدى العلماء، ولكن اليوم أصبحت قصة حتشبسوت مفهومة بشكل جيد.