تمتلئ كتب التاريخ بقصص المعارك الغريبة التي حُسم فيها النصر لأحد الطرفين لأسباب عجيبة، ولعل أبرزها معركة بيلوسيوم التي وقعت بين الفرس والمصريين عام 525 قبل الميلاد، والتي انتصر فيها الملك الفارسي قمبيز الثاني، مستغلاً تقديس القطط في مصر القديمة، وكان من أبرز تداعياتها انتهاء الحكم الفرعوني المستقل في مصر إلى الأبد.
فلنتعرف معاً على قصة هذه المعركة التي أشعلت فتيلها امرأة وحسمت نتيجتها القطة الآلهة باست:
دعونا أولاً نفهم سر تقديس القطط في مصر القديمة
قدَّس المصريون القدماء الحياة بجميع أشكالها وتجلياتها، وقد شمل هذا التقديس الحيوانات بالعموم.
وعلى الرغم من أن المصريين القدماء كانوا يأكلون اللحوم، ورغم أن فراعنتهم اعتادوا ممارسة الصيد، فإنهم كانوا ميّالين في الغالب إلى النظام الغذائي النباتي، وهو انعكاس لقداسة الطبيعة لديهم، وفقاً لما ورد في موقع Ancient History.
ومن بين جميع الحيوانات حازت القطط اهتماماً خاصاً في مصر القديمة، إذ ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالآلهة المصرية المعروفة باسم باست، والتي تظهر في الفن المصري بجسد امرأة ورأس قطة.
كانت باست رمزاً للخصوبة والولادة، وارتبطت بالمرأة ارتباطاً وثيقاً، ومن مهامها حماية الأسرة من الأرواح الشريرة والأمراض، خاصةً تلك التي تصيب النساء والأطفال.
ومن بين جميع الآلهة القديمة، حازت باست شعبية واسعة في جميع أنحاء مصر، واتخذ المصريون من مدينة بوباستيس مركزاً لعبادتها منذ القرن الخامس قبل الميلاد على الأقل.
إيذاء قطة يعني إيذاء الآلهة باست شخصياً
على الرغم من أن الآلهة باست كانت آلهة ترمز إلى الوداعة، فإنها امتلكت كذلك جانباً مظلماً، فقد كانت تتحول عندما تغضب إلى الآلهة "سخمت"، وهي آلهة شرسة تحمل هيئة لبؤة مفترسة ولا تُحمد عقبى غضبها على الإطلاق.
كانت باست إذن لا تتوانى عن الانتقام من المسيئين إليها، ووفقاً لاعتقاد المصريين القدماء لم يكن مرض الطاعون وكوارث أخرى إلا شكلاً من أشكال انتقام باست.
من ذلك المنطلق، حرص المصريون القدماء على تدليل القطط، التي يعني إيذاؤها إساءة مباشرة إلى الآلهة باست، لدرجة أن عقوبة قتل إحداها كانت الموت، وإذا ماتت قطة منزلية ميتة طبيعياً في بيت مصري ما، كان سكانه يحلقون حواجبهم؛ تعبيراً عن حزنهم.
ولا تخلو المقابر المصرية المكتشفة حديثاً من العديد من مومياوات القطط المحنطة.
فلنعد الآن إلى قمبيز الثاني والمعركة التي انتصر فيها بسبب القطط
في الفترة ما بين عامي 1570 و1069 قبل الميلاد، كانت المملكة المصرية في مرحلة ازدهار ونمو بمختلف المجالات، وهي الفترة التي حكم فيها فراعنة مثل أحمس الأول، وحتشبسوت، وتحتمس الثالث، وأمنحتب الثالث، وإخناتون، ونفرتيتي وتوت عنخ آمون.
لكن بحلول عام 1069 بدأت الإمبراطورية التي بناها أولئك الفراعنة بالتداعي والانهيار، إذ ضعفت القوى العسكرية للجيش المصري وبدأت الحروب والنزاعات الأهلية التي أدت في النهاية إلى تقسيم المملكة المصرية، الأمر الذي ساهم في زيادة أطماع الغزاة.
امرأة أشعلت فتيل الحرب
على الرغم من أن أحمس الثاني الذي حكم ما بين 570 و526 قبل الميلاد، كان من أعظم الحكام الذين مروا على مصر في فترة الانحدار، فقد حاول استعادة جزء من هيبة مصر وأمجادها العسكرية، إلا أنه مع ذلك لم يكتب له دحر الغزو الفارسي.
بدأت القصة عندما بعث ملك الفرس، قمبيز الثاني، برسالة لفرعون مصر يطلب فيها أن تكون واحدة من بناته زوجة له.
آنذاك كانت التقاليد تقضي بعدم منح المرأة المصرية لملوك أجانب، ولم يرغب أحمس الثاني في إرسال واحدة من بناته إلى ملك الفرس، فأرسل عوضاً عنها ابنة سلفه الفرعون أبريس على أنها ابنته هو.
شعرت ابنة أبريس بالإهانة من قرار الفرعون فكشفت عن هويتها الحقيقية فور وصولها إلى بلاط ملك الفرس، الأمر الذي أغضبه ودفعه إلى اتهام أحمس الثاني بإهانته بإرسال "زوجة مزيفة" إليه.
كان الفرس يدركون أن مصر ستكون عاجزة عن الصمود أمام قواتهم، لذا لم يتوانَ قمبيز الثاني عن حشد رجاله وإعلان الحرب.
يشكك بعض المؤرخين في قصة "الزوجة المزيفة" تلك، لكنهم يتفقون جميعاً على وقوع معركة بيلوسيوم بين الفرس والمصريين وعلى أن القطط كانت سبباً رئيسياً في خسارة المصريين لتلك المعركة.
الفرعون الشاب وحيداً في مواجهة الفرس
من سوء حظ الفرعون الشاب بسماتيك الثالث أن والده أحمس الثاني فارق الحياة قبل إعلان الفرس حربهم على مصر.
لم يكن بسماتيك الثالث مجهزاً لصدّ قوات العدو، لكنه مع ذلك بذل قصارى جهده في الاستعداد للمعركة وتحصين مواقعه بمدينة بيلوسيوم الواقعة بالقرب من دلتا النيل، منذ أن وصلت إليه أنباء التعبئة الفارسية.
كانت قلعة بيلوسيوم محصنة بشكل جيد وكذلك كانت العاصمة ممفيس، الأمر الذي دفع الفرعون الشاب إلى اعتقاد أنه قادر على صدّ هجوم الفرس، لكن إلى جانب قوته العسكرية تميز قمبيز الثاني بدهائه الذي مكَّنه من حسم المعركة لصالحه.
قمبيز الثاني يستغل معرفته بالثقافة المصرية
عكس ما توقع قمبيز، نجح المصريون في صد التقدم الفارسي، على نحو مذهل، وكان من الممكن أن يكسبوا المعركة لولا الاستراتيجية الذكية التي اتبعها قمبيز.
كان الملك الفارسي على معرفة واطلاع بالثقافة المصري، وكان يدرك مدى تبجيل المصريين وتقديسهم للقطط، لذلك أمر برسم صورة الآلهة باست على دروع جميع رجاله.
علاوة على ذلك كان خط الدفاع الأول في هجومه على المصريين عبارة عن جيش من القطط والحيوانات الأخرى التي يقدسها المصريون مثل الكلاب والأغنام وطيور أبو منجل.
زرع ذلك الخوفَ والرهبة في صفوف الجنود المصريين الذين أبوا ضرب صورة آلهتهم المحبوبة المرسومة على دروع الأعداء، كما خافوا من إصابة الحيوانات أثناء تقدمهم للوصول إلى الجنود الفرس، فما كان منهم إلا أن رفضوا القتال وأعلنوا هزيمتهم وتراجعهم من أماكنهم، مفسحين الطريق للفرس.
يروي المؤرخون أن الانتصار كان من حليف الفرس في معركة بيلوسيوم، وقد أكملوا بالاستراتيجية نفسها طريقهم إلى العاصمة ممفيس واحتلوها وأسروا الفرعون الشاب الذي تم إعدامه لاحقاً.
لم تكن تداعيات تلك المعركة مجرد احتلال ممفيس، فمنذ ذلك الوقت لم تعد مصر دولة مستقلة وبقيت تحت السيطرة الفارسية، ثم مرت بعد ذلك بعديد من التغيرات، لينتهي بها المطاف كمقاطعة تابعة للإمبراطورية الرومانية وذلك في عام 30 قبل الميلاد.