حمى إشبيلية من الغزو القشتالي برقعة شطرنج.. عن حيلة “ثعلب الصحراء” الوزير الأندلسي ابن عمار

عربي بوست
تم النشر: 2020/12/30 الساعة 12:44 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/01/30 الساعة 11:29 بتوقيت غرينتش
ابن عمار

جيوش ملك قشتالة ألفونسو السادس على أبواب إشبيلية، ولا طاقة للملك المعتمد بن عباد بردعها؛ إذ لا يملك من العدة والعتاد ما يواجه به جيوش ملك قشتالة المُصر على ضمّ إشبيلية إلى أراضيه. وكالعادة لجأ المعتمد إلى وزيره الداهية ابن عمار، الملقب بـ "ثعلب الصحراء"، الذي استطاع إنقاذ البلاد من هذه الورطة بـ "لعبة شطرنج".. تعالوا نروِ لكم القصة.

لعبة الشطرنج التي أنقذ بها ابن عمار إشبيلية  

في عهد ملوك الطوائف تقسمت الأندلس إلى قرابة 22 دويلة، وكانت إشبيلية التي انضمت إليها لاحقاً الجزيرة الخضراء من نصيب بني عباد. ورغم أن الدويلة كانت قوية ومتماسكة في عهد المعتضد

المعتضد

المعتضد بالله أبو عمرو واسمه الحقيقي عبَّاد بن محمد بن إسماعيل اللخمي هو ثاني أمراء بني عباد في الأندلس، وهو ابن أبا القاسم بن عباد ووالد المعتمد الذي كان آخر أمراءها.
ولد المعتضد في العام 1016 في إشبيلية وونجح في توسيع الإمارة غرباً لتضمَّ لبلة ولبة وجزيرة شلطيش، ثم خاض صراعاً مع طوائف البربر في الجنوب حتى ضمَّ قرمونة ومورور ورندة وأركش والجزيرة الخضراء قبل أن يسيطر أخيراً على قرطبة.
يوصف المعتضد بأنه من أشهم وأقوى أمراء بني عباد لكنه كان مستبداً في الوقت ذاته إذ قام بقتل الكثير من قادة جيوشه سيما ابنه البكر إسماعيل الذي يقال بأنه قتله في كلتا يديه عندما حاول التآمر عليه.
توفي المعتضد في العام 1069 بعد إصابته بذبحة صدرية تاركاً ورائه مملكة قوية ليخلفها ابنه الثاني المعتمد.
ويقال إن للمعتضد نحو 20 أبناً من الذكور و 20 من الاناث وأن له نحو 70 جارية.

فإنها ضعُفت وهزلت في عهد ابنه المعتمد، إلى أن تهاوت وأنقذها المرابطون من السقوط في أيدي الإسبان.
ولعلّ أبرز القصص التي خلَّدها التاريخ في عهد المعتمد بن عبّاد

المعتمد بن عباد

المعتمد أو الظافر أو المؤيد، جميعها أسماء أطلقت على محمد بن عبَّاد ثالث وآخر أمراء دولة بني عباد في الأندلس وابن أبي عمرو المعتضد حاكم إشبيلية.
ولد المعتمد في باجة في العام 1040 وتوفي في 1095 عن عمر ناهز 55 عاماً فقط.
خلال حياته خلف المعتمد والده في في حكم إشبيلية والتي أصبح ملكاً عليها وهو في عمر الـ 30 فقط، قبل أن يوسَّع مناطق سيطرة مملكته فاستولى على بلنسية ومرسية وقرطبة، وأصبح من أقوى ملوك الطوائف فأخذ الأمراء الآخرون يجلبون إليه الهدايا ويدفعون له الضرائب.
وقد زعم شاعره أبو بكر بن اللبانة أنه امتلك في الأندلس 200 مدينة وحصن، وأنه ولد له 173 ولداً.
في آخر سنوات حياته حاول ألفونسو السادس ملك قشتالة مهاجمة مملكته، فاستعان بحاكم المرابطين يوسف بن تاشفين، وخاض معه معركة الزلاقة التي هزمت بها الجيوش القشتالية.
لكنّ ما لبث أن شنَّ يوسف بن تاشفين حرباً جديدة على المعتمد في العام 1091 فحاصر إشبيلية واستولى عليها قبل أن ينفي المعتمد إلى مدينة أغمات في المغرب التي توفي فيها بعد أسره بـ 4 سنوات.

قصة لعبة الشطرنج، التي أنقذت إشبيلية من الوقوع في يد ملك قشتالة ألفونسو السادس.
في ذلك الوقت كان الملك ألفونسو

الملك ألفونسو السادس

ولد ألفونسو السادس في العام 1040 واسمه الحقيقي الفنس بن شنجه وهو الابن الثاني لفرناندو الأول ملك ليون وقشتاله الذي قام قبل وفاته باستدعاء البلاط الملكي للإعلان عن وصيته لأبناءه ألفونسو وسانشو والأختين غارسيا وأوراكا فيما يتعلق بالحكم من أجل ضمان عدم حصول أي خلاف بعد وفاته.
وعليه قرر توزيع إرثه على أبناءه ومنها تسليم ألفونسو حكم ليون و ابنه الأخر سانشو حكم قشتالة.
بعد وفاته تقلد ألفونسو حكم ليون وأسترقة وإل بيرزو وسمورة مع تييرا دي كامبوس، بالإضافة إلى بارياس طائفة طليطلة لكنه بقي طامعاً بأملاك إخوته سيما مملكة قشتالة التي تسلمها أخيه سانشو.
دارت الكثير من الحروب بين الأخوة الأربعة وانتهت بخسارة ألفونسو أمام قوات سانشو الذي أغتيل بعد ذلك في عاصمة مملكته مما أعطى الحق لألفونسو بالمطالبة بالعرش.
وبعد أن خضعت له قشتالة وليون قويت شوكة ألفونسو، واستدار نحو ممالك الطوائف المجاورة، وأغار عليها من فترة إلى أخرى لكنه لقي خسارة فادحة في معركة الزلاقة أمام المرابطين.
بعدها بفترة قصيرة تلقى ألفونسو هزيمة قاسية في معركة أقليش أمام المرابطين كذلك والتي فقد فيها أبنه سانشو ليموت بعدها بعدة أشهر تحديداً في العام 1109 حزناً على ابنه تاركاً كل حكمه لاخته أوراكا.

يطمع في ضم إشبيلية إلى أراضيه، فسيّر جيوشه إلى حدودها رغم وجود اتفاق مسبق بينه وبين المعتمد على دفع جزية سنوية لقشتالة، لكن ألفونسو أخلَّ بالاتفاق الذي عقده معه ابن عمار بنفسه. وفي موقف كهذا لن تجدي فيه القوة نفعاً كان لا بد من استخدام الذكاء والحيلة التي اشتهر بها وزير المعتمد.
ابن عمار
ابن عمار

"هَذَر الملوك جِدٌّ يا مولاي"

كان ابن عمار يدرك مدى وَلَه الملك ألفونسو بلعبة الشطرنج، ويدرك كذلك مدى براعته فيها فعمد إلى أحد الحرفيين البارعين وطلب منه صنع رقعة شطرنج نفيسة بقطع موشّاة بالذهب لم يشهد أحد مثلها، ودفع أموالاً سخية للمقربين من ملك قشتالة كي يحدثوه عنها.

ولما اجتمع ابن عمار مع ألفونسو أظهر رقعة الشطرنج تلك فأعجب بها إعجاباً كبيراً، فعرض عليه ابن عمار أن يلعب بها، فإن كانت الغلبة لألفونسو يفوز برقعة الشطرنج النفيسة، أما إن كانت الغلبة لابن عمار فيلبي له ألفونسو أي طلب يرغب فيه.

في البداية تردد ملك قشتالة، واعترض قائلاً إنه لا يلعب على شرط مجهول قد لا يستطيع تنفيذه إن هو خسر، لكن مَن حوله زيَّنوا له الأمر وأخبروه أنه سيغلب ابن عمار لا محالة، وأنه من غير اللائق أن يتردد ملك مثله في منازلة وزير من المسلمين.

ومن سوء حظ ألفونسو أن ابن عمار كان شديد البراعة في لعب الشطرنج، وهو أمر لم يصرّح به في البداية، ولما كان الفوز من نصيبه عرض طلبه على الملك، والذي كان انسحاب جيوشه من إشبيلية.

غضب ألفونسو، وقال إن اللعبة كانت هَذَراً، ولا يمكن أن يتحول الهَذَر إلى جِدٍّ، فأجابه ابن عمار: هَذَر الملوك جِدٌّ يا مولاي.

وراح مستشارو ألفونسو – الذين دفع لهم ابن عمار بسخاء – يقنعونه بضرورة الانسحاب لأنه الملك، ولا يجب أن يقال إن الملك تراجع عن كلمته، وتحت الضغوطات وافق ألفونسو بسحب جيوشه على أن تدفع إشبيلية إتاوة عامين لهذه السنة.

وقد وردت تلك القصة في كتاب يروي سيرة الوزير الأندلسي ويحمل اسم "ابن عمار" للكاتب المصري الراحل  ثروت أباظة، كما ورد ذكرها في الكتب التي تناولت سيرة المعتمد بن عباد، وفيما يرويها البعض على أنها واقعة حقيقية يسردها آخرون على أنها قد تكون إحدى المبالغات التي حيكت حول ابن عمار. 

ابن عمار "ثعلب الصحراء" و"رجل الجزيرة"

من الجدير بالذكر أن الملك ألفونسو كان معجباً بابن عمار، وكان يلقبه بـ "رجل الجزيرة" نسبة إلى منطقة الجزيرة الخضراء الواقعة تحت سيطرة بني عباد، فيما لقبه آخرون بـ "ثعلب الصحراء" لدهائه وسعة حيلته.

ولا يذكر التاريخ لابن عمار كونه سياسياً محنكاً فحسب، بل يذكر كذلك أنه شاعر فذ اتخذ من الشعر صنعةً في بداية حياته، فكان يجوب قصور الأمراء والملوك يمدحهم ويهجو أعداءهم فيُغدقون عليه الأموال.

وبالرغم من أنه نشأ لأسرة أندلسية فقيرة من مدينة "شلب" (جنوب البرتغال وهي مدينة سيلفش حالياً)، وعانى من ضنك العيش وفقر الحال في بداية شبابه، فإن الحياة ابتسمت له عندما أصبح صديقاً مقرباً للمعتمد ابن الملك المعتضد، إذ جمع حب الشعر بين الصديقين اللذين باتا نادراً ما يفترقان.

ولما آل المُلك للمعتمد بعد وفاة أبيه قلّد الوزارة لصديق عمره ابن عمار، الذي بات ملقباً بـ "ذي الوزارتين"، فهو وزير الدولة ووزير الشعر.

الملك ابن عمار

انتصارات ابن عمار المتتالية والشهرة التي حققها في كل أرجاء الأندلس زادت غروره، وجعلته يتنكّر لصديقه المعتمد، الذي قرّبه منه وقلّده أعلى المناصب في دولته، فما كان من ابن عمار إلا أن خان صديقه بعد أن فتح مملكة مرسية، ونصَّب نفسه ملكاً عليها مستقلاً بحكمه عن المعتمد.

ولم يكتفِ ابن عمار عند هذا الحد، بل راح يهجو المعتمد وزوجته اعتماد الرميكية، فقال فيهما:

ألا حيّي بالغرب حيـاً حـلالاً 
 أناخوا جمالاً وحازوا جمـالا


وعرّج بيـوميـن "أم القرى" 
ونم فعسى أن تراهـا خيـالا


تخيرتها من بنـات الهجـان 
رمكيـة ما تسـاوى عقـالا


فجاءت بكل قصيـر العـذار 
لئيم النجارين عمـّاً وخـالا


قصـار القـدود ولكـنهـم 
أقامـوا عليها قروناً طـوالا


سأهتك عرضك شيئاً فشيئـاً 
وأكشف سترك حـالاً فحـالا

لكن غرور ابن عمار طغى على ذكائه عندما نصّب نفسه ملكاً، وهجى صديق عمره المعتمد، فلم يتوقع أن يبعث المعتمد بجيش لاسترجاع مرسية، وهذا ما حدث.

ورغم فرار ابن عمار فترة من الزمن انتهى به الحال أخيراً في سجن المعتمد، وكادت محاولاته أن تفلح في كسب عطف صاحبه القديم ثانية عبر أشعاره التي تُظهر الندم وتطلب العفو والمغفرة، لكن المعتمد علم أن ابن عمار كان يراسل ألفونسو من سجنه، ويتعهد بمساعدته على القضاء على بني عباد، فما كان من المعتمد إلا أن قتل صاحبه بيده بواسطة فأس هوى بها على رأسه عام 1085.

مصير إشبيلية والمعتمد 

بالرغم من أن ألفونسو قد فك الحصار عن إشبيلية بعد خسارته أمام ابن عمار، إلا أنه توجه نحو مدن أندلسية أخرى مثل سرقسطة وبلنسية، وعاد ألفونسو لاحقاً ليحاصر إشبيلية لكن المعتمد هذه المرة استعان بيوسف بن تاشفين قائد المرابطين في المغرب الذين توجهوا إلى الأندلس وهزموا ألفونسوا في معركة الزلاقة عام  1086. 

وبعد 5 أعوام من هذه الحادثة قرر المرابطون ضم ملوك الطوائف إلى ملكهم وكان من السهل على جيوشهم القوية اختراق دفاعات دويلات الأندلس الضعيفة، فاستولوا على إشبيلة عام 1091 ونفوا المعتمد مع أسرته إلى المغرب ووضعوهم تحت الإقامة الجبرية في مدينة أغمات. 

تحميل المزيد