مع أن قصته لا تُذكر كثيراً في كتب التاريخ، كان خوان بويول غارسيا (واسمه الحركي، العميل غاربو) من أهم الجواسيس في الحرب العالمية الثانية. ولأنه كان عميلاً مزدوجاً لحساب الحلفاء في أوروبا الغربية، تمكن في نهاية المطاف من قلب مسار الحرب.
حصل العميل غاربو على اسمه المستعار من الممثلة الشهيرة غريتا غاربو؛ لمهارته الفائقة في التمثيل، فقد قضى عامين يتظاهر بأنه نازي متعصب، ويبني الثقة عند الألمان بإعطاء معلومات مزيفة للجيش الألماني.
وبالفعل ساعدت المعلومات الزائفة التي أعطاها لهم على شواطئ نورماندي، في انتصار الحلفاء ونهاية الحرب، ونهاية الرايخ، بحسب ما نشره موقع All That's Interesting.
الحرب تُغير رأي خوان بويول غارسيا
مثل أي جاسوس تحوَّل إلى عميل مزدوج، لا يوجد كثير من المعلومات عن نشأة غارسيا. وُلد في 1912، ونشأ ببرشلونة في عائلة ثرية ميسورة الحال، وشغل وظائف متفرقة.
ومع أنه نشأ كطفلٍ محدود الموهبة، فإن مسار حياته تحوَّل أثناء الحرب الأهلية الإسبانية. كان غارسيا وقتها يدير مزرعة دواجن صغيرة، في عام 1936، حين تم تجنيده ليخدم في الجيش ستة أشهر.
وبينما استعرت الحرب بين الجمهوريين الفاشيين والشيوعيين القوميين من اليسار المتطرف، أساء كلاهما معاملته.
فالفاشيون الجمهوريون احتجزوا عائلته كرهائن واتهموهم بأنهم معادون للثورة، في حين سجنه اليسار المتطرف حين تجرأ على انتقاد ميولهم السلطوية.
ويُزعم أن غارسيا، لأنه لم يشعر بالولاء لأي طرف منهما، رفض أن يطلق رصاصة واحدة لحساب أيهما.
وحين انتهت الحرب بصعود أدولف هتلر بألمانيا في 1939، لم يتبقَّ لغارسيا سوى ازدراء مرير للفاشية والشيوعية، وبالتبعية ألمانيا النازية وروسيا السوفييت.
ولاحقاً فتح غارسيا نزلاً متواضعاً في مدريد، واحتفظ باشمئزازه مما رآه في بلده.
وحين بدأت الحرب العالمية الثانية، توصل غارسيا إلى استنتاج أن عليه أن يُسهم "في خير الإنسانية"، وقدَّم للبريطانيين عرضاً ظن أنهم لا يمكن أن يرفضوه.
العميل المزدوج
في بداية الحرب، قرر خوان بويول غارسيا أنه يريد أن يكون جاسوساً للبريطانيين، ورأى في بريطانيا واحة للقيم والمبادئ التي آمن بها. لكن في كل مرة من المرات الثلاث التي تواصل فيها غارسيا مع البريطانيين، قوبل طلبه بالرفض.
فلم يقدم لهم أي خبرة أو علاقات، والبريطانيون لم يدركوا وقتها كيف يمكن لمالك نزل ومزارع دواجن سابق أن يكون جاسوساً مفيداً لهم.
شاعراً بالسخط، قرر غارسيا أن يخاطب الألمان أولاً، ثم يتحول إلى عميل مزدوج لاحقاً. وبعد بناء علاقاته، نجح بالنهاية في خلق هوية لنفسه باعتباره مسؤولاً حكومياً نازياً متعصباً من مدينة لشبونة البرتغالية.
وهذه الهوية، على حد زعمه، مكنته من السفر إلى لندن لأداء بعض المهام الرسمية، واقتنع الألمان بكلامه.
استعمل غارسيا حينها مزيجاً مرتجلاً من الموارد البريطانية ليضفي مصداقية على المعلومات الاستخباراتية التي يعطيها للألمان.
مِن كتب الإرشاد السياحي إلى الأخبار والأفلام، لفَّق غارسيا مجموعة من القصص الزائفة والعملاء الخياليين، وأعطاها لرؤسائه بألمانيا. واتضح فيما بعد أنها كانت لمسة عبقرية من غارسيا لسببين.
أولاً، كانت تقارير غارسيا قابلة للتصديق لدرجة أن الاستخبارات البريطانية حين اعترضت رسائله بدأت التحقيق في هويته الزائفة. علاوة على ذلك، إن اكتشف النازيون أي معلومات مزيفة مررها لهم، فكل ما احتاج أن يفعله حينها هو أن يلوم أحد عملائه المزيفين.
وبعد عامين من التحركات السرية، علمت بريطانيا أخيراً بحملة غارسيا لتضليل النازيين في 1942، وعلى أثر انبهارهم بمواهبه وافقوا على أن يتعاون مع المكتب الخامس، وكالة الاستخبارات البريطانية، بصفته عميلاً مزدوجاً.
وفي ذلك الدور، غذَّى غارسيا النازيين "بخليط من الخيال المحض، والمعلومات الحقيقية التي ليست لها قيمة عسكرية، والمعلومات العسكرية القيّمة التي تأتي متأخرة"، من أجل خداع رؤسائه في ألمانيا.
كذب غارسيا المتقن يمهد لانتصار الحلفاء
أثبت العميل غاربو قيمته للبريطانيين أثناء عملية "المشغل" Torch، الحملة البريطانية في شمال إفريقيا.
إذ أبلغ غارسيا رؤساءه النازيين بالحقيقة، وهي أن السفن الحربية البريطانية المطليَّة بتمويه البحر المتوسط، متجهة نحو موانئ إستراتيجية في شمال إفريقيا.
لكن رسائله أوصلها طيار بالخطوط الجوية الهولندية، ومن ثم تقيَّد إرسالها بجداول الشحن. وبوضع إستراتيجية ناجحة لوقت وصول تلك المعلومات، وصلت إلى البحرية الألمانية متأخرة للغاية.
لكن حين وصلت لهم الرسالة، كانت محتوياتها صحيحة تماماً. وكتب له الضباط النازيون قائلين: "نشعر بالأسف لأن المعلومات وصلت لنا متأخرة، لكن تقاريرك الأخيرة كانت رائعة".
وفي تلك الآونة، كان على غارسيا أن يبدع باستمرار، من أجل الحفاظ على متاهته من العملاء المتخفين الزائفين.
في إحدى المرات، حين أخفق غارسيا في إبلاغهم بتحركاتٍ كبرى (ظاهرة للعيان) للأسطول البريطاني من ميناء ليفربول، زعم غارسيا أن عميله مرِض قبل بدء تلك التحركات. وليدعم هذه القصة، زيَّف غارسيا موت ذلك العميل، ونشر نعياً في الصحيفة المحلية له.
أكسبته تلك التحركات الماهرة ثقة القيادة النازية العليا، التي بدأت التواصل معه بالراديو بدلاً من إرسال الرسائل بالطائرات. وبذلك أرسلوا له أحدث شيفراتهم، وسلَّمها بدوره إلى البريطانيين، ليساعدهم في جهود فك الشيفرة الألمانية.
وبتحركات خفية مثل هذه، رسخ خوان بويول غارسيا مكانته في عالم الجاسوسية بحلول عام 1944. وعند تلك النقطة، كان مصدراً لا يشكك فيه النازيون، وهذه المكانة ستخدمه في دوره الأعظم، وهو دوره بعملية نورماندي.
غارسيا يخدع الجيش الألماني بأكمله
بحلول عام 1944، كانت القوات البريطانية والأمريكية تخطط لغزوٍ بري طال انتظاره لأوروبا الغربية على شواطئ نورماندي الفرنسية. هذا الغزو، الذي يحمل الاسم الكودي "العملية أوفرلورد"، يُعرف أيضاً باسم "ساعة الصفر" D-Day.
العملية أوفرلورد كمَّلتها العملية الشقيقة، "فورتيتيود"، وكانت مهمتها إقناع القيادة العليا الألمانية بأن الحلفاء يخططون لغزو مضيق كاليه في فرنسا.
مضيق كاليه هو النقطة الأقرب جغرافياً إلى إنجلترا في فرنسا. وكان هتلر نفسه يؤمن بأن مضيق كاليه هو نقطة الدخول المنطقية لأي غزو قادم من بريطانيا. لذا حصَّن الجنود الألمان هذه الشواطئ بشكل أقوى بكثير من نقاط الغزو الفعلية في نورماندي.
كان الحلفاء يأملون أنهم سيتمكنون من تأكيد شكوك الألمان عن طريق نشر مطارات زائفة، وجيوش من الدبابات المنفوخة والسفن الخادعة في أنحاء جنوب شرقي إنجلترا. وهذه المعدات الزائفة حققت المطلوب منها حين رأتها طائرات الاستطلاع الألمانية.
لكن بعيداً عن الخدع المادية، أمد الحلفاء، الألمان بمعلومات زائفة، وهنا لعب خوان بويول غارسيا دوره.
في تلك الفترة، استمر غارسيا في إستراتيجيته القائمة، وهي إرسال معلومات سليمة إستراتيجياً، لكنها متأخرة بحيث لا تبقى لها قيمة فعلية.
في أهم تحركاته قاطبة، أرسل رسالة عاجلة في الثالثة من صباح يوم ساعة الصفر، بخصوص غزو نورماندي، لكن لم يجِب أحد على الجانب الآخر.
في اليوم التالي، استيقظ مشغّلو أجهزة استقبال الراديو، وأدركوا أهمية رسالته. لكنهم أدركوا أنهم تأخروا للغاية، فالغزو بدأ بالفعل في نورماندي.
وحين أكد الألمان تسلُّمهم الرسالة متأخرين، رد غارسيا بغضب قائلاً: "لا أقبل الأعذار ولا الإهمال. ولولا مبادئي لتركت العمل فوراً".
وبعد 3 أيام من الغزو، أمر هتلر بتحريك أغلب فرق الدبابات الفتاكة للدفاع عن نورماندي. وكان هذا سيسبب كارثة لقوات الحلفاء، التي كانت تصارع من أجل السيطرة على الشاطئ.
بدأت الدبابات تتحرك بالفعل عندما تدخل غارسيا بمذكرة عاجلة، أقنع فيها القيادة الألمانية العليا بأن الهجوم على نورماندي مجرد تشتيت، وأن الغزو الحقيقي سيأتي من كاليه.
لذا التفَّت القوات مرة أخرى وبقيت في مواقعها السابقة. وفي يوليو/تموز وأغسطس/آب، بقيت فرقتان مدرعتان و19 فرقة مشاة في كاليه استعداداً لغزو لم يأتِ قط.
ووجد فحص للسجلات الألمانية بعد الحرب، أن غارسيا في ذلك الوقت زوَّد الألمان بما لا يقل عن 62 تقريراً في الملخصات الاستخباراتية الموجهة للقيادة الألمانية العليا. ودفع الألمان مبلغاً تصل قيمته اليوم إلى مليون دولار، لدعم شبكة غارسيا المؤلفة من 27 عميلاً لا وجود لهم.
اختفاء العميل المزدوج
أنقذ عمل خوان بويول غارسيا الآلاف على الأرجح، ويعلق التاريخ الرسمي للاستخبارات البريطانية في الحرب العالمية الثانية بأن "تدخُّل فرق بانزر في معركة نورماندي كان من الممكن أن يتسبب في قلب موازين الحرب".
والمفارقة أن غزو نورماندي عزز من سمعة غارسيا في الرايخ أكثر وأكثر. فالقيادة النازية العليا لم تشك قط في خداعه، وبعد مدة قصيرة كافأه هتلر نفسه بصليب حديدي مكافأة على خدمته.
وأثناء عمله لحساب البريطانيين، عبَّر غارسيا للألمان عن "شكره المتواضع" لهذا الشرف الذي يرى أنه "لا يستحقه".
ومع ذلك الصليب الحديدي، اعتبرت بريطانيا غارسيا عضواً برتبة الإمبراطورية البريطانية، ما يجعله الرجل الوحيد في الحرب العالمية الثانية الذي تلقى أوسمة رفيعة من الجانبين.
ونقلته الاستخبارات البريطانية إلى كاراكاس، وسمحت له بالعيش في فنزويلا مع عائلته بهوية بديلة، حيث مات في 1988 أثناء كتابة مذكراته.