بنيت في القرن الأول الميلادي، وتحولت إلى واحدة من أكثر المدن حيوية ورخاء قبل أن تدفن في رمال الصحراء الكبرى لمدة ألف عام.. تعالوا نعرفكم على مدينة "تيمقاد" الأثرية التي لا تزال أطلالها موجودة في الجزائر حتى يومنا هذا.
قصة مدينة تيمقاد الأثرية
بنى الإمبراطور تراجان ، الذي حكم في الفترة من 98م إلى 117م، مدينة تيمقاد في عام 100م، لتكون إحدى المستعمرات المزدهرة التابعة للإمبراطورية الرومانية في إفريقيا، وتحديداً في الصحراء الكبرى في الجزائر.
حملت المدينة آنذاك اسم "مستعمرة ماركيانا ألبيا ترايانا تاموقادي" تخليداً لذكرى أم الإمبراطور مارقيا، واخته الكبرى ألبيا ماركيانا، وابيه مرقص ألبيوس ترايانوس. وحتى يومنا هذا ما زالت المدينة تًسمى تاموقاس أو تاموقادي.
وسرعان ما أصبحت تيمقاد مدينة حيوية وصاخبة، إذ كانت مسكناً لقدامى المحاربين من جيش تراجان العظيم، كما كانت مكاناً لاستعراض قوة الرومان ضد السكان الأصليين من قبائل البربر التي كانت تسكن في الأجزاء الشمالية والغربية من القارة الإفريقية.
ثم ما لبثت أن أصبحت مركزاً تجارياً تمتع قاطنوها بالسلام والرخاء لقرون عديدة.
انعكاس لفن العمارة الروماني
تضم المدينة القديمة عدداً من المعابد، والحمامات العامة، ومجموعة متنوعة من المساكن التي تخص طبقات مختلفة من المجتمع، بالإضافة إلى منطقة تجمع عامة، ومكتبة عامة، وأسواق، ومسرح، ومحكمة رومانية (باسيليكا).
لم تُستوطن تيمقاد قبل بنائها، لذا بُني كل شيء من الصفر، باستخدام النظام الروماني للتخطيط. فشكلها الخارجي مربع تماماً، مع العديد من التقاطعات الرئيسية داخل المدينة مما يسمح بتدفق المرور بسهولة.
مثل كل المدن الرومانية، فالشارع العابر من الشمال إلى الجنوب في تيمقاد يسمى كاردو.
أما الشارع العابر من الشرق إلى الغرب يسمى ديكومانوس.
ولكن على عكس المدن الرومانية المعتادة، لم يكن الكاردو في تيمقاد يشغل الطول الكامل للمدينة. ولكنه ينتهي في مركز تيمقاد، عند ساحة التجمع.
ساحة التجمع في تيمقاد هي تفصيلة مميزة أخرى للتخطيط العمراني التي كان يستخدمها الرومان. استخدم الرومان ساحات التجمع باعتبارها ميادين عامة يمكن أن يبيع فيها السكان السلع، أو من أجل التجمعات العامة.
وتجد المسرح جنوب الساحة وليس ببعيد عنها. بُني المسرح في عام 160م تقريباً، ويتسع لحوالي 350 شخصاً. ويبدو أن المسرح نُحت مباشرة من تل قريب، وحتى يومنا هذا، لا يزال سليماً على نحو كبير.
غزو المدينة واندثارها
انقلبت حظوظ تيمقاد بعد أن تعرضت لنهب قبائل الوندال الجرمانية، الذين كانوا يؤسسون مملكتهم الخاصة في شمالي إفريقيا، في القرن الخامس.
وأدى الغزو الواندالي إلى اضطراب اقتصادي في تيمقاد. وعانت المدينة أيضاً بسبب سوء إدارة العديد من أباطرة الرومان، وعدم وجود جيش مستقل يحميها، وكذلك فقدان السيادة على أراضيها.
كل هذه العوامل أدت إلى انهيار تيمقاد.
لكن أُعيد إحياء تيمقاد باعتبارها مدينة مسيحية في القرن السادس، عندما غزا البيزنطيون هذه المنطقة، ومع بداية القرن السابع هجرها سكانها بعد استيلاء البربر عليها، لتدخل المدينة هذه المرة طي النسيان، خصوصاً مع تقدم الصحراء الكبرى التي دفنت المدينة تحت الرمال في نهاية الأمر.
وبعدما تُركت بلا حماية، تقدمت الصحراء الكبرى ودفنت المدينة.
إعادة استكشاف تيمقاد
بعد ألفي عام من بنائها، لا تزال تيمقاد بارزة باعتبارها واحداً من أكثر المواقع الأثرية المميزة في العالم.
فالتخطيط العمراني المتقدم، حتى وإن كان يظهر بين الأطلال، ما زال مشهداً مذهلاً للناظرين.
ووفقاً لما ورد في موقع All That's Interesting الأمريكي، لم تُكتشف تيمقاد مرة أخرى إلا بعد 1000 عام، عندما صادف الموقع مجموعة من المستكشفين الذين كانوا يسافرون في شمالي إفريقيا.
يعود جزء كبير من الفضل في إعادة اكتشاف المدينة القديمة إلى جيمس بروس، أحد النبلاء الاسكتلنديين، الذين كان القنصل البريطاني في الجزائر العاصمة في عام 1763.
ترك بروس القنصلية بعد خلاف مدوً مع مديريه الموجودين في لندن. لكنه بدلاً من العودة إلى إنجلترا، اجتمع بالفنان الفلورنسي لويجي بالوجاني وبدآ رحلتهما عبر إفريقيا.
وصل بروس وبالوجاني إلى موقع تيمقاد يوم 12 ديسمبر/كانون الأول من عام 1765.
وكتب بروس الذي كان مفتوناً بأطلال المدينة الشاسعة في وسط الصحراء، في مذكراته: "كانت مدينة صغيرة، لكنها تزخر بالكثير من البنايات الفخمة". وبناءً على معرفة بروس بتاريخ شمال إفريقيا، كان واثقاً من أنه وجد مدينة الإمبراطور تراجان الضائعة منذ وقت طويل.
لكن عندما عاد بروس أخيراً إلى لندن لمشاركة اكتشافاته العظيمة، لم يصدقه أحد. لكنه لم ييأس وعاد إلى اسكتلندا. وقضى فترة التقاعد وهو يكتب عن رحلاته في إفريقيا، واكتشافه لمدينة تيمقاد.
وتحولت مذكرات بروس إلى مجلد من 5 أجزاء تحت عنوان رحلات لاستكشاف مصدر النيل Travels to Discover the Source of the Nile ونُشرت في عام 1790.
استغرق الأمر قرناً آخر قبل أن يأتي خليفته روبرت لامبرت بلاي فاير، القنصل البريطاني الجديد في عام 1875، واقتفى آثار بروس في شمالي إفريقيا.
وعندها وجد بلاي فاير تيمقاد. وحتى بعد مرور قرن كامل، حُفظت المدينة بصورة كبيرة بفضل الرمال الجافة في الصحراء الكبرى.
أدت عمليات التنقيب التي تلت إلى إدراج المدينة في قائمة التراث العالمي الخاصة باليونسكو في عام 1982.
ما زال هناك الكثير من أطلال تيمقاد ثابتة حتى اليوم، ومن بينها القوس المميز المعروف باسم قوس تراجان، والمسرح الذي ما زال يستضيف حفلات من حين لآخر.