“الطاعون الفلورنسي” لقب استحقته لقسوتها.. كاثرين دي ميديشي التي حكمت فرنسا بالدم والسحر والدسائس

عربي بوست
تم النشر: 2020/11/11 الساعة 19:37 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/11/11 الساعة 19:37 بتوقيت غرينتش
كاثرين دي ميديشي

من أسيرة حرب في إيطاليا إلى أميرة في البلاط الفرنسي تعاني من خيانة زوجها وضغوطات بسبب عدم الإنجاب، إلى ملكة شريرة متعطشة للسلطة، حكمت فرنسا بسفك الدماء وحبك المكائد ودس النساء الجميلات في مخادع ذوي السلطة والنفوذ.  

هذه هي القصة المثيرة للاهتمام للملكة التي لقبها شعبها بـ"الطاعون الفلورنسي"، كاثرين دي ميديشي:

كاثرين دي ميديشي.. الدوقة اليتيمة

لم يمضِ شهر على ولادتها في عام 1519 حتى توفي والداها بسبب المرض، لتتنقل وريثة آل دي ميديشي بين الأقارب والأديرة لحمايتها من أعداء عائلتها الكثر في إيطاليا.

فما إن أتمت الدوقة الصغيرة عامها الأول حتى توفيت جدتها التي كانت تعتني بها، ليتناوب بعد ذلك عدد من أفراد الأسرة في رعايتها، إلى أن استقرت أخيراً في أسرة عمها العطوف جوليو دي ميديشي، الذي أصبح فيما بعد البابا كليمنت السابع.

وفي عام 1523 انتقلت الدوقة الصغيرة للعيش معه في قصر فخم في فلورنسا، لكنها لم تنعم بالراحة سوى لأربعة أعوام فقط، إذ بعد عام 1527 بدأت سلطة دي ميديشي بالانهيار في المنطقة.

كاثرين دي ميديشي

أسيرة وضحية لسوء المعاملة

أطاح الكاردينال سيلفيو باسريني بالبابا كليمنت، واحتجزت قواته كاثرين كرهينة وأرسلتها لتعيش بمفردها في أحد الأديرة.

كانت الحياة في الدير أبسط وأكثر أماناً مما اعتادت عليه، لكن الحال لم يدم كذلك، فقد كان عمها البابا كليمنت على استعداد لعقد صفقة مع الشيطان لاستعادة نفوذه، الأمر الذي جعله يلجأ إلى تشارلز ملك إسبانيا ويعده بتتويجه إمبراطوراً رومانياً مقدساً.

مسحوراً بتلك الوعود توجه تشارلز بجيوشه نحو فلورنسا وحاصرها، الأمر الذي شكل خطراً على حياة الدوقة المحتجزة داخل أسوار المدينة.

فقد بدأت قوات الكاردينال بالانزعاج من المعاملة المضيافة التي تلقاها الدوقة، البالغة من العمر 11 عاماً، واقترحوا أن يقتلوها أو أن يظهروها عارية ومقيدة بالسلاسل أمام العامة كرسالة تحذيرية لعمها، أو أن يسلموها للجنود كي يستغلوها لمتعتهم الشخصية ويذلوا البابا كليمنت بذلك. 

لحسن الحظ، لم تصمد فلورنسا طويلاً قبل أن تستسلم وتعود كاثرين إلى عمها الذي أحضرها على الفور إلى روما.

زواجها من الأمير هنري

بعد أن وطد البابا كليمنت سلطاته بدأ بالبحث عن زوج لابنة أخيه اليتيمة، حتى تلقى عرضاً من ملك فرنسا فرانسيس الأول، الذي اقترح أن يزوجها لابنه الثاني هنري.

لم يكن هنري آنذاك المرشح الأول لتولي العرش بعد أبيه، ولم يكن فرانسيس يعلم أن هذه الدوقة الصغيرة التي جلبها إلى بلاطه ستسبب لاحقاً الخراب في بلاده.

تزوج الأمير الفرنسي والدوقة الإيطالية في حفل زفاف فاخر وصف أنه كان خيالياً، لكن الزوجان لم يلتقيا كثيراً في السنة الأولى من زواجهما، فقد أمضى الأمير وقته في السفر إلى الريف بينما بقيت الدوقة مع سيدات البلاط الفرنسي، حيث استطاعت خلال فترة وجيزة إثارة إعجاب الجميع بذكائها وفطنتها.

"لقد أتتني الفتاة عارية تماماً"

لم تكتمل سعادة كاثرين بزواجها، فقد توفي عمها البابا كليمنت وأصبحت بذلك أقل أهمية وشأناً في البلاط الفرنسي، خصوصاً بعد أن رفض البابا بول الثالث أن يدفع للملك فرانسيس المهر الهائل الذي وعده به سلفه كليمنت.

وهكذا تغيرت مكانة كاثرين في البلاط بين ليلة وضحاها، حتى إن الملك قال عنها بسخرية: "لقد أتتني الفتاة عارية تماماً"

زواج تعيس ومحاولات يائسة للإنجاب شملت شرب بول البغال

بعد أن توفي شقيقه الأكبر فجأة بسبب المرض أصبح هنري المرشح الأول ليخلف والده ويحكم فرنسا، ولتكون زوجته كاثرين بذلك الملكة أيضاً.

وقد لاحقت الشائعات كاثرين بأنها قد تكون مسؤولة عن تسميم الأمير الشاب، لكن لم يستطع أحد إثبات ذلك.

وكانت أزمتها الأخرى في البلاط هي عدم قدرتها على الإنجاب حتى بعد 10 سنوات من الزواج، فقد جربت كل شيء بما في ذلك شرب بول البغال ووضع روث البقر وقرون الأيل المجفف على أعضائها التناسلية، فوفقاً للمعتقدات السائدة قديماً كان ذلك من شأنه تحسين الخصوبة.

وخلال هذه السنوات العشر تنقل هنري بين العشيقات غير آبه بمشاعر زوجته، ولم يكلف نفسه حتى عناء إخفاء خيانته لها، وجاءت الطامة الكبرى عندما أنجبت إحدى عشيقاته ابنة واعترف بها هنري علناً.

10 أولاد بعد عقم طويل

بعد وفاة الملك فرانسيس، أصبح هنري الثاني ملكاً لفرنسا عام 1547، وبالرغم من عشقه لفتاة تكبره بـ23 عاماً تدعى ديان دي بواتييه والتي بقي متيماً بها حتى نهاية حياته، فإنه احتفظ بمكانة زوجته كاثرين إلى جانبه كملكة لفرنسا.

ولم يبق عرش فرنسا دون وريث، فبفضل طبيب ماهر اكتشف مشكلة كاثرين التي تمنعها من الإنجاب، أنجبت الدوقة أخيراً طفلها الأول فرانسيس، ومنذ ذلك الوقت استمرت في الإنجاب إلى أن أصبح لديها عشرة أطفال بقي منهم 6 على قيد الحياة.

استمر حكم هنري الذي كان ثقيلاً على قلب كاثرين بسبب تفضيله لعشيقته ديان عليها، حتى وفاته عام 1559، وحينها بدأ العصر الذهبي لملكة فرنسا الجديدة.

كاثرين دي ميديشي

الصراع على الحكم

تولى ابن كاثرين فرانسيس الثاني الحكم بعد وفاة أبيه، وقد كان غير مؤهل لمنصبه إذ لم يتجاوز الـ15 من عمره، ورغم سوء معاملة هنري لزوجته فإنها حزنت عليه كثيراً بعد وفاته، وألهاها حزنها عن تولي أمور الحكم، ما دفع أخوة زوجها لاستغلال الأمر والعمل كأوصياء على ابنها، وحكام فعليين لفرنسا.

لكن بعد أقل من عام على تتويجه أصيب الملك الشاب بعدوى خطيرة، وقبل أن يتوفى كانت كاثرين قد مكنت لنفسها في البلاط، بحيث سماها المجلس الملكي حاكمة لفرنسا بعد وفاة ابنها مباشرة.

ومنذ أن تسلمت كاثرين السلطة تمسكت بها بأقصى ما تملك وكانت على استعداد للقضاء على كل من قد ينازعها سلطتها.

سرب من النساء الجميلات، والسم، ومجموعة من السحرة.. أسلحة كاثرين الخطيرة

بالرغم من خلاف المؤرخين على هذه الجزئية، فإنه يُعتقد أن كاثرين بنت سلطتها في البلاط الفرنسي عبر مجموعة من النساء الجميلات اللواتي أطلقت عليهن اسم "السرب الطائر".

وتعود هذه التسمية إلى كون كاثرين أول من أدخل رقص الباليه إلى فرنسا، وقد اعتادت نساؤها أولئك على تقديم عروض باليه راقصة يبدين خلالها وكأنهن سرب من الطيور. 

كانت مهمة هذه النساء الانتشار في أسرّة الرجال ذوي السلطة في البلاط للتجسس وجمع المعلومات وحبك المكائد.

وفضلاً عن هذا السرب، يقال إن ملكة فرنسا لم تتوانَ عن استخدام شتى الوسائل للاحتفاظ بالسلطة، بما في ذلك القتل ودس السموم وحتى استخدام السحر.

فقد وظفت الملكة مجموعة من السحرة ومستحضري الأرواح لخدمة أهدافها، على رأسهم الساحر الشهير كوزيمو روجيري والمنجم نوستراداموس، الذي توقع لها أن أطفالها سيصبحون ملوكاً وأنها ستدفنهم جميعاً.

وتعتبر تلك النبوءة صحيحة إلى حد ما، فقد أصبح 3 من أطفالها ملوكاً وقد دفنت ثمانية من أطفالها العشرة.

مارست عنفاً وحشياً وأشعلت النزاعات الدينية

امتلكت كاثرين القوة الحقيقية في فرنسا عندما حكمت من خلال ابنها تشارلز البالغ من العمر 9 سنوات، الذي استمر في البكاء حتى انتهت مراسم تتويجه، ولم يكن يسمح لأمه بالابتعاد عن عينيه حتى إنه كان يشاطرها نفس الغرفة.

وتميزت فترة حكم كاثرين بالنزاعات الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت، وقامت بعدة تجاوزات أغضبت البابا بيوس الرابع وأشعلت حروباً مزقت فرنسا.

 وبالرغم من وقوع العديد من المذابح في عهدها، فإن مذبحة يوم القديس بارثولوميو كانت وصمة العار الأبرز في فترة حكم كاثرين.

"اقتلوهم جميعاً"

يبدو أن القتل كان منهجاً بارزاً لملكة فرنسا حين ترغب في التخلص من أعدائها، فقد أثيرت حولها العديد من الشبهات بعد مقتل منافسين لها في الدولة، أحدهم مات بعد تلقي هدية منها قيل إنها مسمومة.

وفي حين كانت تعتمد على السم للتخلص من أعدائها ذوي المناصب الرفيعة، كانت تستخدم أكثر الطرق وحشية للتخلص من أولئك الذين يمتلكون سلطة ونفوذاً أقل.

في تلك الفترة، وبسبب تأجيج الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت الذين كانوا يشكلون أقلية في فرنسا، ظهرت جماعة تدعى الهوغونوت تدعو للسماح للبروتستانت بممارسة حرياتهم الدينية.

وقد استطاعت الملكة كاثرين إقناع ولدها الملك بأن هؤلاء يخططون للتآمر ضده الأمر الذي دفعه في النهاية إلى قواته: "اقتلوهم جميعاً".

وهكذا بدأت المذبحة في يوم القديس بارثولوميو عام 1572، واستمرت لأكثر من أسبوع إذ شملت باريس والمناطق الريفية المجاورة لها.

ويقدر العدد الإجمالي من القتلى البروتستانت بحوالي 30 ألف شخص بينهم نساء وأطفال وشيوخ.

الملك المجنون

بعد تلك المذبحة المروعة بات الملك تشارلز مضطرباً فحيناً يتباهى بعدد الجثث في مذبحة يوم القديس بارثولماوس، وحيناً تنتابه نوبات من الشعور بالذنب بسبب الفظائع التي ارتكبت باسمه، وفي معظم الأحيان يلقي باللوم على والدته كونها "سبب كل شيء".

وفي ظل هذه الاضطرابات في علاقة الأم بولدها، لم يكن أما كاثرين المتعطشة للسلطة المطلقة سوى خيار واحد، وهو أن تعلم بأن ولدها أصبح "مجنوناً".

وبعد عامين فقط من المذبحة، توفي الملك البالغ من العمر آنذاك 23 عاماً بسبب المرض، وتعين على كاثرين إعداد أخيه الأصغر ليكون الدمية الجديدة على عرش فرنسا.

 الدمية الجديدة على عرش فرنسا

الولد الثالث لكاثرين على العرش كان ابنها المفضل هنري الثالث، وفي عهده سرت الأمور كما كانت دائماً، إلى أن حدث ما لم يكن متوقعاً.

فقد تلقت كاثرين وابنها الملك خيانة موجعة من الابن الأصغر، فرانسيس، المعروف باسم "السيد"، والذي تحالف مع البروتستانت ضد أمه وأخيه في عام 1576، وقد أجبر هذا التحالف الملكة على الاستسلام لمطالب الهوغونوت لأول مرة منذ سنوات.

ورغم غضب الملكة من ابنها فرانسيس فإن وفاته المفاجأة شكلت صدمة كبيرة لها، إذ تشكل وفاته تهديداً لحكمها لأنه آخر أولادها الذكور الأحياء، ولأن هنري الذكر الوحيد المتبقي لديها لم ينجب أطفالاً بعد.

تمرد ما تبقى لها من أطفال

كانت كاثرين تخطط للتمسك بالسلطة على المدى البعيد، وفي حال موت ابنها هنري سيرث الحكم في هذه الحالة زوج ابنتها مارغريت.

لذا حرصت كاثرين على السيطرة على مارغريت لكن الأخيرة كانت شديدة التمرد وقد كانت علاقاتها الغرامية كثيرة، وانتهى بها الأمر أن هربت من زوجها لتلحق بعشيق لها في الريف، فما كان من كاثرين إلا أن أمرت بحبس ابنتها في قلعة وإمدادها بما يكفيها فقط لتبقى على قيد الحياة معتبرة أن ابنتها ماتت.

لم تواجه كاثرين تمرد مارغريت وحدها، فحتى الملك هنري الذي ورث وحشية أمه وحبها للدماء قد بدأ بالتمرد.

عزل الملك حاشيته ومستشاريه دون سابق إنذار -وقد كانوا جميعاً تابعين لوالدته- وأجهز على منافسيه الذين لم يبق منهم سوى عمه الذي كان يتمتع بسلطة ونفوذ كبيرين.

تجاهل هنري نصائح والدته، وأصر على التخلص من عمه، فقتله هو وجميع أفراد عائلته، دون أن يدرك أنه سيدفع ثمن ذلك غالياً.

الصدمة قتلت كاثرين

كان تصرف هنري الطائش بمثابة خيانة لكاثرين، وقد كتب لها الخبر بنفسه قائلاً: "أرجوك سامحني لقد قتله. لقد فعلت به ما كان سيفعله بي".

دمرت هذه الخيانة النهائية كاثرين، فماتت بعد أيام قليلة، ويعتقد الكثيرون أن صدمتها من تصرفات ابنها المتهورة كانت السبب في موتها.

وبعد ثمانية أشهر فقط من موتها، تعرض ابنها الذي فقد بوصلته في الحكم دون مشورة أمه للطعن حتى الموت.

نبش قبرها خلال الثورة الفرنسية

كانت فترة حكم كاثرين عبر أولادها الثلاثة حقبة مليئة بالدماء والصراعات السياسية والدينية التي مزقت فرنسا، ولم يغفر الفرنسيون لها ذلك.

وبالرغم من أنها استطاعت الحفاظ على نفوذها وسلطتها حتى آخر أيام حياتها تقريباً، فإن الانتقام منها جاء بعد موتها، إذ تم نبش قبرها مع قبور عدد كبير من الملوك والملكات الفرنسيين خلال الثورة الفرنسية، فرمي رفاتها بشكل عشوائي مع رفات متسلطين آخرين في مقبرة جماعية.

تحميل المزيد