ربما يكون التمثال النصفي للملكة نفرتيتي أحد أكثر قطع الفن المصري القديم شهرةً وتقليداً في العالم، وثمَّة سبب وجيه وراء ذلك، إذ حكمت الملكة الشهيرة مصر القديمة خلال فترة سادها اضطرابٌ ثقافيّ هائل نتيجة تغييرها هي وزوجها الفرعون أخناتون هيكل التركيز السياسي والديني في مصر، كما أنها كانت تتمتع بنفوذ غير مسبوق في البلاط الملكي المصري.
ولكن بعد ذلك في العام الثاني عشر من حكم زوجها الذي دام 17 عاماً، اختفت نفرتيتي فجأةً من السجلات التاريخية.
أثار هذا الاختفاء حيرة المؤرخين لقرون، وحوّل حياتها وإرثها إلى موضوعٍ شيّق يأسر الباحثين أسراً، فهل ماتت أم تنكَّرت لتُحكم كفرعون، أم تمّ نفيها لأنها لم تنجب الوريث الذكر؟
دعونا نعرفكم أكثر على نفرتيتي وفرضيات مختلفة حول اختفائها كما ورد في موقع All That's Interesting الأمريكي.
غيّرت مع زوجها إله المصريين وديانتهم
لا يُعرف الكثير عن جذور نفرتيتي، ولكن يُعتقد أنها ولدت حوالي عام 1370 قبل الميلاد، وربما نشأت في بلدة أخميم، حيث كانت أيضاً ابنة أخت مسؤول يُدعى آي أو ابنته.
كان آي أحد كبار المستشارين وأصبح فرعوناً بعد وفاة الملك توت عنخ آمون لاحقاً عام 1323 ق.م.
غير أن مؤرخين آخرين يفترضون أنّ نفرتيتي كانت في الواقع أميرةً تنحدر من مملكة ميتاني في شمال سوريا الحالية، وكان من الشائع عند القدماء المصريين تفضيل إلهٍ عن آخر، وقيل إن نفرتيتي كانت تُفضِّل إله الشمس المصري آتون.
وبغضّ النظر عن جذورها فقد تزوّجت نفرتيتي من أمنحتب الرابع، ابن أمنحتب الثالث، حين كانت في الخامسة عشرة من عمرها.
كان أمنحتب الثالث، المعروف أيضاً بأمنحتب العظيم، الفرعون التاسع في الأسرة الثامنة عشرة. وطوال فترة حكم هذه الأسرة، اكتسب المصريون المحبون لإله الشمس والريح والخصوبة آتون قوة كبيرة، فضلاً عن الثروة والنفوذ اللذين يمكنّاهم من تحدي سلطة الفرعون في الوقت الذي تولى فيه أمنحتب الرابع العرش.
وحين اعتلى العرش في طيبة حوالي عام 1353 ق. م، بدأ أمنحتب الرابع ونفرتيتي في إحداث تغييراتٍ كبيرة في المجتمع المصري. إذ توقَّف أمنحتب الرابع عن الممارسات الدينية بطريقتها التي كانت معروفة في مصر، وأغلق المعابد، وجرَّد عبادة آمون من سلطتها ليمنحها إلهه المفضَّل هو ونفرتيتي، آتون.
إذ جعل أمنحتب الرابع آتون محور تركيز الحياة الدينية وانتهك قدسية أسماء وتصويرات الإله السابق آمون. وشيَّد سلسلةً من المعابد لآتون في مُجمَّع معابد الكرنك بالقرب من الأقصر في عامه الأول.
ويشير عالم المصريات جيمس ألين إلى أنّ أمنحتب عمل حتى على تغيير "الآلهة" المتعددة إلى "إله" واحد. ويرى المؤرخون أن هذا التغيير يدلُّ على رغبته في تعزيز سلطته لتصبح مقتصرة عليه وعلى نفرتيتي وحدهما.
ثمّ، في السنة الخامسة من حكمه، غيّر أمنحتب الرابع اسمه إلى أخناتون الذي يعني "روح آتون". وغيّرت نفرتيتي اسمها ليصبح "نفرنفراتون"، الذي يعني "آتون يشرق لأنّ الجميلة قد أتت".
بعد ذلك انتقل الزوجان إلى الشمال في العمارنة ليكونا أقرب إلى الشمس. وقد كان حكمهما يتمتَّع بقوَّةٍ غير مسبوقة، حتى إنه ساد اعتقاد بأن نفرتيتي ربما كانت هي نفسها فرعوناً حاكماً.
من الجائز أنها كانت فرعونة حاكمة فعلاً
كان التصوير المثالي الخالي من العيوب للفراعنة الأوائل في النقوش والتماثيل قد انتهى. إذ ظهر أخناتون في بعض المجسَّمات بأردافٍ أنثوية قليلاً وملامح ضخمة أكثر من اللازم، في حين تطور تصوير نفرتيتي تدريجياً إلى شكلٍ لا يمكن تمييزه تقريباً عن أخناتون.
كان هذا تحولاً واضحاً عن تصويرها النمطيّ في السابق مثل أي فتاةٍ شابة جميلة، غير أنّ الرسوم والمجسَّمات الأخيرة لها في عهد أخناتون عادت لتصبح أكثر واقعية، وإن كان مظهرها أكثر ملكيَّة بكثيرٍ من النقوش التي تصوِّرها قبل الملكية، ما يشير إلى أنها كانت تتمتع بسلطة متساوية في حكم مصر.
وقد صورت جدران المعابد والمقابر التي شُيدت خلال حكم إخناتون نفرتيتي إلى جانب الفرعون بوتيرةٍ متكررة، حتى إنَّ بعض علماء المصريات والمؤرخين يعتقدون أنّهما كانا شريكين في الحكم، إذ لم تظهر أي ملكةٍ مصرية أخرى إلى جانب زوجها الفرعون بهذا الكَم الذي ظهرت به نفرتيتي في النقوش والتماثيل الفرعونية.
وصوَّرت العديد من النقوش الملكة نفرتيتي في مواقع السلطة، من هزيمة عدوٍ في معركة، إلى قيادة طقوس عبادة الإله آتون، وقيادة عجلةٍ حربية، بل وصوَّرتها العديد من النقوش بوضوحٍ وهي ترتدي تاجاً فرعونياً.
وبعد إنجابها ست فتيات، تزوج إخناتون نساء أخريات، كان من بينهن أخته، التي أنجب منها الملك توت عنخ آمون. وتزوج توت عنخ آمون ابنة نفرتيتي الثالثة، عنخ إسن آمون.
ولكن رغم تأثير نفرتيتي في مثل هذه التغييرات الجوهرية في الحياة الدينية والثقافية وربما المشاركة في حكم مصر، فقد اختفت فجأة.
هل ماتت الملكة نفرتيتي أم أنها تنكَّرت لتحكم مصر؟
بعد 12 عاماً من حكم مصر مع زوجها أخناتون، اختفت الملكة نفرتيتي من جميع النقوش والمجسَّمات. وحتى يومنا هذا لا يوجد إجماعٌ بين المؤرخين على مصيرها الحقيقي، رغم أن معظم الباحثين استنتجوا أنها ماتت ليس إلا.
لكن ثمَّةَ نظرية مثيرة خرج بها خبراء آخرون، وهي أنها كانت تَخدَع الشعب وترتدي ملابس الرجال، وربما حدث ذلك بعد أن رقَّاها أخناتون من ملكة إلى شريكة في الحكم تتمتع بالسلطة نفسها التي يتمتع بها الفرعون، ولكن لا يوجد دليل واضح يثبت ذلك.
وتشير مجموعة من الباحثين إلى أنَّ نفرتيتي أصبحت هي نفسها أحد فراعنة مصر الحاكمين. ويجادل هؤلاء المؤرخون بأنَّ إخناتون توفي وأنَّ خليفته الفرعون سمنخ كا رع هو في الواقع نفرتيتي، لكن متنكرة.
ومع الأسف، لا توجد أدلة أساسية تؤكد أياً من هذه المزاعم، فإذا كان إخناتون قد مات حقاً وخلفته زوجته نفرتيتي على العرش، فمن الممكن بوصفها الفرعون الجديد، أن تلغي السياسات الدينية لزوجها. ومن المعروف أنه خلال حكم إخناتون أمرت نفرتيتي بإحضار كاتب لها لتقديم قرابين للإله آمون، وتوسلت له للسيطرة على الاضطرابات التي حدثت نتيجة تغيير زوجها للديانة.
وفكرة أنها تنكرت في هيئة رجل أيضاً ليست الأولى من نوعها، إذ يُزعَم أنَّ حتشبسوت نفسها حكمت مصر متخفِّيةً في صورة فرعون رجل خلال القرن الخامس عشر قبل الميلاد، حتى إنها استخدمت لحية رسمية مزيفة.
يُعتقد أنها نُفِيَت لأنها لم تنجب الوريث الذكر
وأخيراً، يعتقد البعض أنَّ نفرتيتي قد نُفِيَت لأنها لم تكن قادرة على إنجاب وريثٍ ذكر، فيما يعتقد البعض الآخر أنَّ نفرتيتي انتحرت عندما ماتت ابنتها ميكيتاتن أثناء الولادة في سن 13 عاماً. لكن لا يمكن إثبات أيٍّ من هذه النظريات أيضاً.
لكن في عام 2015، اكتشف عالم المصريات نيكولاس ريفز وعالم الآثار ممدوح الدماطي ما يعتقدان أنه مدخل مخفي داخل مقبرة توت عنخ آمون. ويضمُّ هذا المدخل اختلالات هيكلية تشير إلى وجود غرفة سرية قد تحتوي على تابوت نفرتيتي.
احتمال العثور على مقبرة نفرتيتي
في فبراير/شباط 2020، نشرت مجلة Nature دراسة تعرض تفاصيل مسح بالرادار المخترق للأرض حول مقبرة الفرعون توت عنخ آمون. ووفرت النتائج مصداقية لنظرية ريفز بأنَّ مقبرة الملك تضم قبراً مخفياً أكبر بداخله.
من جانبه، وصف عالم المصريات راي جونسون من المعهد الشرقي بالأقصر التابع لجامعة شيكاغو الأمريكية بيانات الرادار المخترق للأرض التي توصل لها الدماطي بأنها "مثيرة للغاية".
وقال جونسون: "من الواضح أنَّ هناك شيئاً على الجانب الآخر من الحائط الشمالي من غرفة الدفن".
وفي حين أنَّ احتمالية وجود غرف إضافية مخفية خلف قبر الفرعون توت كانت موضع نقاش بين العلماء طوال عقود، رفض البعض الفكرة تماماً، بينما استأجر البعض الآخر شركات خاصة للتحقيق، لكن حتى حدود اللحظة لم يفتح أحد الغرفة المخفية أو دخل إليها.
وبالإضافة إلى بيانات الدماطي، تضفي حقيقة أنَّ ابنة نفرتيتي كانت متزوجة من الملك توت عنخ آمون أدلة ظرفية على فكرة وضع جسدها في القصر المدفون به.
تمثال نفرتيتي الذي أبهر العالم
كل ما تبقى من آثارٍ تدل على نفرتيتي هو الرسوم والنظريات وقطع أثرية قديمة مثل تمثال نصفي من الحجر الجيري ذي قيمة لا تُقدَّر، المعروض في متحف برلين الجديد. تم اكتشاف التمثال النصفي عام 1912 من قبل الشركة الألمانية الشرقية في منطقة العمارنة.
وروى عالم الآثار الرائد لودفيج بورشاردت الاكتشاف في مذكراته، إذ قال: "فجأة أصبح بين أيدينا العمل الفني المصري الأكثر تجسيداً للحياة، لا يمكنك وصفه بالكلمات، يجب أن تراه".
ولا يتمتع تمثال نفرتيتي بشهرة عالمية فحسب، بل يعتبر أحد أكثر أعمال مصر القديمة التي قلدها ونسخها الآخرون. وبالرغم من مرور آلاف السنوات من موتها الغامض تستمر نفرتيتي في التأثير على الفن ومنظورنا عن الماضي، ويستحق إرثها من القوة والجمال المشاهدة.