يولد المرء وبداخله الكثير من الطرقات والخبايا التي تشكلها الحياة فيه، ويخطو فيها الإنسان بداخل نفسه حتی يعرفها جيداً، وحتى يحدد حياته ويتحكم في شروره عليه أن يختبر ويخبر نفسه جيداً.
في رواية "اختلاط المواسم" للكاتب الجزائري "بشير مفتي" التي نُشرت بواسطة دار "منشورات الاختلاف" بالجزائر في عام "2019" ووصلت للقائمة الطويلة لجائزة "البوكر العربية" في عام 2020، في ذلك العمل يخطو بنا الكاتب إلى عالم مظلم شديد الكآبة والالتباس بداخل أعماق النفس البشرية. وعلی طريقة أبوالأدب الروسي دوستويفسكي في التحليل النفسي وتشريح النفس البشرية وإيجاد تفسيرات منطقية مقبولة لأبسط الأفعال البشرية نجد أن مفتي كتب عن أبطال روايته ببراعة ودقة، وبخبرة الأديب العالم ببواطن الأمور والمفسر لأكثر الأفعال غرابة ووحشية على لسان أبطال أعماله.
"لا يخيفني الموت، وإن مت الآن، أو غداً، أو في أي وقت؛ فهذا سيكون مريحاً لي".
تتحدث الرواية عن العصر الذهبي للإرهاب في الجزائر، حيث سيطرت الجماعات الإرهابية على مظاهر الحياة، والحرب الطويلة بينها وبين القوات الأمنية، تلك التي استخدمت كل الطرق في دحض الإرهاب والتصدي له، حتی لو كانت أبرز تلك الطرق هي إنشاء جماعة مخصصة لقتل العناصر الإرهابية، وتلك هي التي ينضم إليها بطل العمل، لا لخدمة الوطن، بل لممارسة هوايته المفضلة.
يظهر بطل العمل هنا ليس في الصورة النمطية المعتادة للقتلة المتسلسلين أو المختلين عقلياً الذين يمارسون القتل لأسباب لا يعلمونها، أو ممن يقتلون من أجل المال. بل إن بطل العمل قاتل من نوع خاص، فيلسوف يمارس القتل لأنه يجد سلامه فيه؛ لأنه يری أن التخلص من بعض الناس فيه خلاص للبعض الأكثر منهم.
"لا أحد منا وُلد حداثياً، نحن نولد في عائلات قديمة ونحاول أن نشق طريقنا نحو عصرنا بجهدنا الثقافي، ورغبتنا الكبيرة في الحرية".
يستخدم بشير مفتي طريقة سرد تنقل لنا الأبعاد النفسية لكل أبطال العمل، حيث إن طريقة "الرواة المتعددون" تُعد هي الأنسب لعمل مثل هذا لنعرف ما يدور في نفس كل شخص منفرداً.
تتحدث الرواية عن ما يضمره كل شخص تجاه المجتمع والناس وأقرب من حوله، عن ما يفكر به البعض بينهم وبين أنفسهم ولا يجرؤون على الحديث عنه أو مصارحة الآخرين به، عن الإيمان بالحرية والقيود المجتمعية التي تمنع الوصول لهدف المرء المنشود للتحرر من القيود التي تكبل الرأي والإبداع.
تتحدث الرواية عن قمع الرأي في الجزائر والسلطة المجتمعية الدينية التي يمارسها الناس على بعضهم البعض، وعن وضع المرأة في المجتمع ونظرته لها، التي لا تختلف بالرغم من اختلاف الطبقات الاجتماعية عن أن المرأة مجرد أداة جنسية للرجل، ليست كيان يحق له القيام بذاته لأن المجتمع سيحاسبه حساب عسير.
نجح بشير مفتي في استخدام أدوات كتابة الرواية ببراعة وخبرة كبيرة كأديب متمرس، حيث إنه بلغته الرصينة وسرده الرائع الذي لم يتزعزع خلال "247" صفحة واستخدامه رواة متعددين تتقاطع طرقهم مع بعضهم البعض صانعين خطوط درامية رائعة، كل هذا قد ساهم في خلق عمل كان يستحق الوصول لأبعد من القائمة الطويلة في قائمة البوكر العربية.
نبذة عن بشير
بشير مفتي روائي جزائري وُلد عام 1969، له عدة روايات من بينها "أرخبيل الذباب"، "شاهد العتمة"، "خرائط لشهوة الليل"، تمت ترجمة بعض أعماله للفرنسية ووصلت روايته "دمية النار" إلی القائمة القصيرة لجائزة البوكر دورة 2012.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.