تصاعدت حدّة التصريحات بين اليونان وتركيا على خلفية الصراع حول اتفاقيات ترسيم الحدود. فبينما وقَّعت اليونان ومصر منذ يومين اتفاقية ترسيم حدود بينهما، كانت تركيا قد وقّعت اتفاقية ترسيم حدود بينها وبين ليبيا من جهة في العام الماضي.
وقد اعتبرت تركيا تلك الاتفاقية بين اليونان ومصر باطلة، بينما لم تقبل مصر واليونان أيضاً باتفاقية ترسيم الحدود بين تركيا وليبيا، رغم أنّها فيما يبدو تعطي لمصر مساحة حدودية أكبر من تلك التي توفرها لها اتفاقيتها مع اليونان.
وفي هذا السياق قال الرئيس التركي رذذجب طيب أردوغان إنّ تركيا "لن تقبل حبسها في سواحلها من خلال بضع جزر صغيرة" في إشارة إلى الجزر الصغيرة التابعة لليونان القريبة من شواطئ تركيا. كما دعا لعقد اجتماع تحضره كلّ دول البحر المتوسط لإيجاد صيغة يقبلها الجميع بخصوص موارد المتوسط".
هذه التوترات المتزايدة بين تركيا واليونان، باعتبارهما عضوين في حلف شمال الأطلسي (حلف الناتو)، تثير المخاوف والتساؤلات بشأن العلاقة بين عضوي الحلف، وموقف الحلف نفسه من احتمالات التوتر العسكري بين بلدين من أعضائه.
خصوصاً أنّ حالة من الاستنفار والتأهُّب قد بدأت في سواحل شرق المتوسط، فبالتزامن مع إرسال تركيا سفينة "عروج رئيس" لإجراء مسح زلزالي من أجل التنقيب عن النفط والغاز في شرق المتوسط، أعلنت اليونان تأهبها، ورست الفرقاطات اليونانية على شواطئ جزيرة ميس، وجهزت أيضاً طائرات تابعة لسلاح الجو اليوناني مستعدةً للإقلاع.
وفي نفس السياق أعلنت الحكومة اليونانية انّ القسم الأكبر من أسطولها على أهبة الاستعداد للانتشار. فما موقف حلف الناتو من احتمال تصاعد توتر عسكري بين أعضائه.
أولاً: ما هو حلف الناتو؟
تأسس حلف شمال الأطلسي – المعروف اختصاراً بحلف الناتو – بمعاهدة واشنطن عام 1949، التي تقوم على أساس الدفاع المشترك والمتبادل بين أعضائها رداً على أي هجومٍ خارجي.
وتأسّس الحلف في سياق التوتُّر مع الاتحاد السوفييتي، بعد الحرب العالمية الثانية. فقد انقسم العالم بعد الحرب العالمية الثانية إلى الغرب (أمريكا وأوروبا) وما سمي حينها "الكتلة الشرقية" أي الاتحاد السوفييتي والدول التابعة له.
كان حلف الناتو منافساً لـحلف وارسو العسكري السابق، والذي شكّله الاتحاد السوفييتي بين دول أوروبا الوسطى والشرقية الشيوعية ليكون في مجابهة حلف الناتو.
يتكون حلف الناتو حالياً من 30 بلداً عضواً مستقلاً في جميع أنحاء أمريكا الشمالية وأوروبا بينها أمريكا والمملكة المتحدة ومعظم بلدان أوروبا وتركيا وكندا.
كان أوّل تدخلات حلف الناتو العسكرية في البوسنة من عام 1992 إلى عام 1995. ثمّ في وقتٍ لاحق في يوغوسلافيا عام 1999، وفي أفغانستان عام 2001، قبل أن يفرض الحظر الجوي على ليبيا في 2011، أثناء قيام ثورة فبراير على نظام معمر القذافي.
وتتشاور الدول الأعضاء يومياً وتتخذ القرارات بشأن قضايا الأمن على جميع المستويات والمجالات. وقرارات حلف الناتو "تعبير عن الإرادة الجماعية لجميع الدول الأعضاء". ويحضر المسؤولون بالإضافة إلى الخبراء المدنيين والعسكريين إلى مقر الناتو يومياً في بروكسل ببلجيكا، لتبادل المعلومات والمساعدة في إعداد القرارات عند الحاجة.
هل يقف حلف الناتو متفرجاً؟
لنطرح السؤال بهذا الشكل: هل يمكن لدول أعضاء في حلف الناتو أن تدخل حرباً عسكريةً فيما بينها؟
حدث هذا من قبل، لكنها كانت في الحقيقة حرباً بالوكالة بين تركيا واليونان في قبرص منتصف السبعينيات.
وتنص المادة الخامسة من ميثاق حلف الناتو، على اعتبار أيّ هجوم على أي دولةٍ من دِوَلِه بمثابةِ هجومٍ على جميع هذه الدول، لكنّ الميثاق لا يحدد ما الذي سيحدث بالضبط إذا هاجمت دولة عضو في الحلف بلداً آخر عضواً في الحلف.
ونحن نعلم أن الـ"ناتو" هو تحالف دفاعي لحماية الدول الأعضاء لا لدعم طموحاتها العسكرية. وبما أنّ التحالفات لا تتوقع عادةً أن يكون أحد أعضائها خارجاً عن الإجماع فإنّ حلف الناتو ليس لديه أيّ قواعد رسمية تحكم طرد الأعضاء حال قام أحدهم بمهاجمة عضوٍ آخر.
ومعاهدة واشنطن المؤسِّسة للناتو لا تقدم تمييزاً بناءً على موقف المعتدي من الحِلف أو عضويته المفترضة. فوفق المعاهدة: الهجوم هو الهجوم. لكن إذا حدث توتُّر بين بلدين عضوين بالحلف فماذا ستفعل الدول الأعضاء؟
ماذا لو توقف الأمر على التوتر بين البلدين؟
تنصُّ المادة الرابعة من الوثيقة نفسها على "تشاور الأطراف بعضهم مع بعض عند الشعور بتهديد سلام أو استقلال أو أمن أحد الأطراف".
وتنص المادة الثانية على "مساهمة الدول الأعضاء في تطوير علاقات السِّلم والصداقة الدولية، وتجنب الخلافات والتناقضات، ودعم التعاون الاقتصادي بين كل الأطراف".
كما يفترض أن يحلَّ ذلك التوترات الداخلية بين الدول الأعضاء بالحِلف، وإلا فإن البند الخامس سيكون تطبيقه صعباً من الناحية العملية.
كما تنص المادة الخامسة على الالتزام بالدفاع الجماعي عن أي دولة من دول الحلف إذا تعرضت لاعتداءٍ خارجي. "ويعتبر أي هجوم أو عدوان مسلح ضد طرف منهم عدواناً عليهم جميعاً، ويفعّل حق الدفاع الذاتي بشكل فردي أو جماعي، وضمن ذلك استخدام قوة السلاح". وبهذا التعهد، تم التوقيع على المعاهدة في واشنطن في يوليو/تموز 1949.
من وجهة نظر قانونية، يبدو كما لو أن الأعضاء الآخرين ملزمون بمساعدة أي عضو تعرض لهجوم من قبل عضو آخر. لكن لنكن واقعيين، إذا قررت أمريكا – على سبيل المثال – أن تهاجم عضواً صغيراً في حلف الناتو، فهل يهرع أعضاء آخرون في الحلف للدفاع عنه؟ الجواب الواقعي غالباً بالنفي.
ماذا لو هاجمت أمريكا دولة من دول الحلف؟
أمريكا هي الدولة الأقوى والرئيسية في الحلف. وكانت المرة الوحيدة التي كان من الممكن تصوّر حدوث هذا التدخل الأمريكي خلال "ثورة القرنفل" في البرتغال عام 1974. وسط أحداث الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي.
كانت البرتغال عضواً مؤسساً في ظلّ ديكتاتورية الجناح اليميني. لكنَّ الثورة اقتربت من وضع اليسار في السلطة، وربما كان من الممكن أن يؤدِّي ذلك إلى عملٍ عسكري من قبل أمريكا لحفظ مصالحها، فقد قامت بتدخلاتٍ مشابهة بالفعل في أماكن أخرى.
أيضاً، سبق أن احتج الرئيس الفرنسي شارل ديغول عام 1966، على الدور القويّ الذي تضطلع به أمريكا في حلف الناتو، وما اعتبره علاقة خاصة بينها وبين المملكة المتحدة (المنافس التاريخي لفرنسا).
بدأ ديغول في بناء قوة دفاع مستقلةٍ لبلده، وسحب الأسطول الفرنسي من قيادة الحلف وأخرج جميع قوات الحلف من فرنسا وأغلق قواعدها.
لكنّ فرنسا ظلت "متضامنة" مع مواقف حلف الناتو في حال هجوم "حلف وارسو" بقيادة الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة، إلى أن عادت بعد أكثر من 40 عاماً من الانسحاب للمشاركة بالحلف في عهد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي عام 2009.
المواجهات التركية اليونانية قديمة
انضمت تركيا واليونان إلى حلف الناتو عام 1952، في سياق الخوف من التمدد السوفييتي غرباً. وفي العام 1954 اقترح الاتحاد السوفييتي نفسه الانضمام إلى الحلف بحجة "الحفاظ على السلام في أوروبا"، وبالطبع رفضت الدول الأعضاء الطلب. عندها بدأ الاتحاد السوفييتي في تأسيس حلف وارسو.
وفي العام نفسه (1954)، شكّلت تركيا واليونان معاً حلف بلقاني مع يوغسلافيا هدفه التصدي للاتحاد السوفييتي، لكن سرعان ما تدهورت العلاقة بين الجارين مرةً أخرى نتيجة الخلاف حول جزيرة قبرص والمواجهات حول بحر إيجه.
وتستمر المزاعم بينهما حتى الآن بانتهاك المجال الجوي والمواجهات البحرية على المياه الساحلية وغيرها، وتعتبر كل من تركيا واليونان بعضهما البعض أكبر تهديدٍ عسكريٍّ للآخر.
فمنذ استقلال اليونان عن الدولة العثمانية عام 1832، ظل التوتر قائماً ودائماً بين الجارين، ولا يزال تاريخ الصراع العثماني – اليوناني حاضراً بعد مرور ما يقرب من قرن على الحرب التركية – اليونانية من سنة 1919 حتى سنة 1922، فشلت حينها الحملة اليونانية المدعومة أوروبياً.
فقد دخلت اليونان الحرب ضد العثمانيين على أمل الفوز بجزءٍ من "الكعكة" العثمانية، ودعمتها دولٌ أوروبية – خاصةً بريطانيا -، واستطاعت السيطرة على مساحاتٍ واسعة من الأناضول، فاحتلت مدينة إزمير عام 1919 وتوسّعت حتّآ شملت سيطرتها كامل غرب وشمال غرب الأناضول في تركيا الحالية.
استمرّت الحرب، واستمرت السيطرة اليونانية طيلة سنتين، إلى أن استطاع الأتراك بقيادة مصطفى كمال أتاتورك هزيمة اليونانيين في عدّة معارك وعندما طلب اليونانيون الدعم الأوروبي لم يكن الوضع الدولي مساعدًا فتخلت عنها أوروبا، وبدأ الأتراك عملية "الزحف" على كلّ المناطق التي أخذها اليونانيون من تركيا الحالية، واستطاعوا تحريرها. وأصبح يوم 30 أغسطس/آب، وهو يوم إعلان النصر التركي عيداً قومياً في تركيا باسم "عيد الظًّفر".
عندما انسحبت اليونان من حلف الناتو بسبب
وقع انقلاب في 15 يوليو/تموز عام 1974 في العاصمة القبرصية نيقوسيا، قاده مطالبون بالوحدة مع اليونان بمساندة النظام العسكري الذي كان يحكم أثينا آنذاك.
أدى ذلك إلى تدخل القوات التركية التي سيطرت على الثلث الشمالي للجزيرة في 20 يوليو/تموز، وظلت هذه المناطق يحكمها القبارصة الأتراك حتى الآن.
وإثر التدخُّل التركي، سحبت اليونان قواتها من هيكل القيادة العسكرية لمنظمة حلف شمال الأطلسي في العام نفسه، ولكن، وبتعاون تركي أيضاً، أعيد قبولها في العام 1980، ولا تزال التوترات بسبب الجزيرة القبرصية المقسمة أكبر عقبة بين الجارين العضوين في حلف الناتو.
ويبدو أنّ الأيّام القادمة قد تحمل توتُّراتٍ كبيرة بين البلدين، فهل سيتغيّر موقف حلف الناتو هذه المرة؟