"الغثيان هو العرض المستنير لأعمال سارتر"
الكاتبة الأيرلندية آيريس مردوك
صبيحة يوم مجهول التاريخ، وجد أنطوان روكنتان أنه لا مناص من تسجيل يومياته، فالسرد اليومي للأحداث يكشف النقاب عن أجزاء مترابطة يمكن جمعها عوضاً عن الاتكال على قدرات الذاكرة المحدودة. وسيكون مانيفستو المذكرات "تجنب إهمال الفروق والدقائق والأمور الصغيرة حتى لو كانت تبدو بلا قيمة".
وبذلك عرف القارئ أنه أمام رحلة في عقل جان بول سارتر، معبراً بلسان بطل روايته عن حالة التأمل المستغرق في الأشياء، ونقلها كما يراها وكما يفكر بها، بسبر غور التفاصيل التي تتضمن حتى الطاولة والناس ورزمة التبغ وعلبة كبريته.
نطلع على روكنتان يجلس على الشاطئ، يمارس تأملاته الفلسفية التي تكتظ بها الرواية، حينما يمسك بحجارة يود لو قذفها على سطح الماء، إلا أن شيئاً ما غريباً حدث بداخله، ربما خوف أو شعور لم يستطع تفسيره.
لكنّه فجر بداخله الرغبة في التساؤل ومعرفة ماهية ما تسبب في اشمئزازه. هل الأشياء حوله تتغير أم أنها نوبة جنون رحلت ولن تخلّف أثراً؟
"أعتقد أنني الذي تغيرت… يحدث أن تتجمع في طائفة من التحولات الصغيرة من غير أن أنتبه لها، ثم يأتي يوم تحدث فيه ثورة حقيقية، وهذا ما أكسب حياتي مظهرها المتنافر، اللامنسجم".
صدرت رواية الغثيان في عام 1938، وعلى الرغم من كونها باكورة روايات الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، إلا أنها تضمنت جل اتجاهاته وأفكاره ما عدا السياسية؛ فقد جعل على مدار حياته من الأدب وسيلة لطرح فلسفته.
تدور الرواية حول الحرية، والقلق الوجودي، والإيمان الرديء، وسلوك البرجوازيين، وطبيعة الذاكرة والفن والجمال، يعبر روكنتان بدهشته ونفوره عن تلك الأشياء، برطانة فلسفية لا تخلو من التشتت وعدم الترابط.
إما أن تعيش أو تحكي
"إني أبني ذكرياتي بحاضري. فأنا ملقى ومتروك في الحاضر. أما الماضي فأحاول عبثاً أن أتصل به".
هُيّئ لروكنتان أن حياته كانت مليئة بالمغامرات، التي سأمها، كما ضجر من السفر والعمل والاختلاط بالآخرين، فلجأ لمدينة بوفيل بغرض العزلة والانكفاء على الكتابة حتى ينهي سيرة حياة "دورولبون" المخادع الدنس من القرن الثامن عشر.
إلا أن قلقه الوجودي، وشعوره بالتيه أوصله بعد تفكير عميق إلى استنتاج بأنه ليس ثمة مغامرات، فكل ما عاشه في طوكيو ومكناس ولندن انتزع منه الآن، فقد كذب على نفسه طوال عشرة أعوام.
ويرى في تلك اللحظة أن المغامرات في الكتب فقط. وطبعاً كل ما يوجد في الكتب يمكن أن يحدث حقاً، لكن ليس بنفس طريقة كتابته.
المغامرات حكايات تروى في الروايات، ولا يجدر بالإنسان أن يعيش في عالم القصص، عندما كان يؤمن بالمغامرات سارت حياته وكأنها مُتذكّرة وليست معاشة.
لكن برؤية الأشياء من خارجها استكشف منبع المتعة حقاً، ذلك لأن الإنسان لا يستطيع التفكير وهو في داخل التجربة، فإما أن يعيش التجربة -الحياة- أو يرويها، لكن الجمع بينهما درب من المستحيل.
وهنا يتساءل عن الحاضر، كيف توجد الأشياء في حاضره هو؟ فالأنا بالنسبة للوجودية هي ما تحقق الوجود للأبد، والأشياء لا توجد إلا لأجلي ووجودها مشروط بي.
وفي ذلك يقول هيدجر "أنا الكائن الذي به يكون ثمة كائن". وسارتر "إن وعيي هو الذي يهب الأشياء وجودها".
تأملات روكنتان
لم تكن تلك النتيجة الوحيدة التي توصل لها روكنتان في رحلته، فقد حاول التذمر حين جلس على مقعد غير مريح في الترام، غير أن الكلمات أبت مفارقة شفتيه، لقد تجردت الأشياء حوله من مسمياتها، وأصبحت عنيدة، مضحكة، حزينة، شرسة، ومن الجنون أن تدعو كلمة لتستريح فوقها.
يتابع روكنتان تأملاته الفلسفية في الحديقة العامة، نظر لطائر النورس دون محاولة تصنيفه كما في السابق، بحسب الفصائل أو مقدار المنفعة العائدة منه، لكنه أحس الآن بخصوصية الأشياء، وأخذ يتأمل شجرة الكستناء، التي فكّر أن جذورها تمتد أسفل مقعده؛ فشعر بأن الوجود يحاصره من كل اتجاه.
"الوجود يختفي عادة ويخبِّئ نفسه، فهو هنا، حولنا وفينا، وهو نحن، ولا نستطيع لفظ كلمتين دون التحدث عنه، وفي النهاية لا نستطيع لمسه، وإذا كنت أظن أني أفكر فيه، تبين لي أني لم أكن أفكر في شيء، بل كان رأسي فارغاً".
البحث عن الخلاص
رحلة روكنتان الميتافيزيقيا، رفضت الامتثال للماضي، لم تسلم بمنطقية الواقع والأشياء المحيطة، تحتقر العصامية الخادعة، وتنظر بعين الاحتقار للمجتمع البرجوازي بكل مظاهره، نوع من الشك القاسي في كل شيء دفعه لتعرية الواقع خلال بحثه عن سبب غثيانه.
يمثل الشعور بالغثيان حالة القلق الوجودي المصاحبة لانعدام المعنى وخواء القيمة لدى الإنسان. إننا جميعاً لا بد أن نشعر بمثل هذا الغثيان؛ فهو حالة ناتجة من السؤال الوجودي "لماذا أنا موجود؟"، فلم تكن مشاعره على درجة من الندرة والغرابة.
تعرية الوجود هو ما جعل روكنتان يلاحظ أشياء لا تشغل البرجوازي رغم أنها أمام عينيه، هو لا يتساءل عن شيء، فقط كل ما يريده هو التكيف والتحرك ضمن إطار طبقته الأخلاقي، والعمل تحت قيمها البالية. أثارته شحنة الثرثرة المصحوبة باستعارات كثيرة عن الشرف والواجب في أيام الأحد.
لكن هل بإمكان أحد هؤلاء التمرد على قيم طبقته، وبذلك يفقد شعوره بالانتماء ومكانته المستمدة من استعارة وجوده؟
إن إحساس روكنتان بأنه زائد على الحد -مجاني- جعل بداخله رغبة في فعل أي شيء يحقق وجوده؛ إذ إنه لا يمكن لأي شيء آخر أن يحقق كينونته، حتى تلك النظرة التشكيكية ليست كفيلة بمنحه المعنى والنقاء المعنوي.
كانت النتيجة الأقرب خلال السير في صفحات الرواية ترمي لأن روكنتان شخص سلبي وانهزامي، إلا أنه في النهاية وصلنا لأن كل دقيقة في حياتنا تساوي الأبدية في قيمتها. كما أن العيش بأحاسيس الماضي، والاستغراق كلياً في اليأس يقتل خطط الحاضر في مهدها.
إن المواقف السلبية التي استفاض سارتر في سردها وسبر أغوارها نفسياً تم علاجها بتحطيمها وإعادة بنائها، فإذا أردت تفسير الأشياء عليك مواجهتها عارية.
إن لحن الجاز الذي تخطاّه الموت مرة تلو أخرى ومنح المغنية وكاتب الكلمات الخلود أصبح من الضروريات بالنسبة لروكنتان، الذي وجد فيه سبيله للخلاص.
لقد استطاعت المغنية السمراء والكاتب اليهودي بلوغ الأبدية، واستنتج روكنتان أن هذا نوع الخلاص الذي يود تحقيقه.
"أريد كتاباً، رواية، وسيكون ثمة أناس يقرأون هذه الرواية ويقولون: إن أنطوان روكنتان هو الذي كتبها، لقد كان شخصاً أحمر الشعر يتسكع في المقاهي".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.