لازَم مفهوم الوجودية مشروع الفيلسوف جان بول سارتر الفكري وحيثيات مواقفه الصاخبة التي زادتهُ حضوراً على المستوى العالمي؛ حيث تحولَ إلى أيقونة ثقافية وفكرية رافضاً الانضمام إلى نادي نوبل والأكاديمية الفرنسية. ومن المعلوم أنَّ الوجودية باعتبارها فلسفةً لا تنفصلُ في إطارها الأفكار عن صيرورة الحياة.
"ما من أحد يمكنه أن يتولى عنك بناء الجسر الذي يتحتمُ عليك أن تعبره فوق نهر الحياة".
- الفيلسوف الألماني نيتشه
تسمعُ صدى تلك العبارة لدى سارتر فيقول: "لا يوجدُ مسار موصوف يهدي الإنسان إلى خلاصه، بل يجب عليه اختراع مساره دائماً، وأن يخترع مساره معناه أنه حرّ ومسؤول".
وهذا يعبرُ عن فكرة سارتر الجوهرية وإيمانه بمبدأ الحرية، إذ يعتقدُ بأنَّ الإنسان لابَّد أن يبادر بإنشاء نفسه وتكوين ذاته، وهو كائن وحيد يسبقُ لديه الوجودُ الماهية. صحيح أنَّ سارتر لا يتجاهلُ دور بعض المؤثرات الاجتماعية والبيئية والبيولوجية في تشكيل الكائن البشري غير أنَّ كل ذلك لا يعفيه من المسؤولية فشعاره هو "ينبغي أن تصدم العقول بما يتحداك".
يتوقف الدكتور عبدالله عبدالدائم في مقدمته لكتاب "سارتر والوجودية" عند هذه الإشكالية، مشيراً إلى أنَّ الإنسان قد لا يمكنهُ اختيار البيئة أو الطبقة الاجتماعية التي يولد فيها، لكن في نهاية المطاف هو منْ يتخذُ الموقف اللازم من هذه الحال التي يوجدُ عليها. إذاً فإنَّ تحمُّل المسؤولية هو ما يحمي أصالة الإنسان ويحولُ دون انحداره نحو مهالك الزيف. وفي ذلك تستشف فكرة رواقية "إنني قد لا أختار ما يحدث لي ولكني أستطيع اختيار ما سأفعله معه". ويذكر سارتر في محاضرته "الوجودية منزع إنساني" قصة أحد تلامذته مثالاً على صعوبة اختيار الموقف، فكان هذا الشخص متردداً بين الانضمام إلى المقاومة ضد النازية أو البقاء مع أمه الوحيدة التي تعاني حزناً نتيجة خيانة زوجها وموت ابنها الأكبر، وما أن يتوسلُ التمليذُ إلى أستاذه بحثاً لحل مشكلته حتى أخبره بأنهُ حر وعليه أن يبتّ في اختياره. تصفُ الكاتبة البريطانية "سارة بكويل" في كتابها الموسوم بـ"على مقهى الوجودية" فكرة سارتر بأنها كانت مثيرة للنشاط وشديدة الجاذبية، وفعلاً كان المناخ مواتياً لتلقفها، لأنَّ العالم قد خرج لتوه من حرب مدمرة. وما ميز سارتر في الوسط الثقافي هو زخم نشاطاته وعدم الفصل بين حياته وفلسفته "حياتي وفلسفتي شيء واحد"، وهذا ما يؤمنُ به أيضاً صديقه ميرلوبونتي "الحياة تصير أفكاراً والأفكار تعود إلى الحياة".
المرح الفلسفي
تمكنَ سارتر من التسامي على بعض مشكلاته الذاتية وناقش بالمرح قبح ملامحه وفك العقدة التي دفعت به نحو الانطوائية عندما كان طفلاً. لم يكتفِ سارتر بنشر المؤلفات الأدبية والفلسفية وإصدار المجلات، إنما انخرط في مساندة الحركات التحررية وكان دوره لافتاً في ثورة مايو/أيار 1968 وأثار بمواقفه الجريئة سخط الشيوعيين والديغوليين في آن واحد. وحين تظاهر المحاربون القدامى رفضاً لاستقلال الجزائر رددوا بين هتافاتهم "أطلقوا النار على سارتر"، كونه مناهضاً للاستعمار، وبذلك أبانَ عن التزامه الأخلاقي بإعلان هذا الموقف. علاوة على ما سبق فإنَّ سارتر شارك في إنشاء "حزب التجمع الديمقراطي الثوري" مع أنَّ هذه التجربة قد باءت بالفشل، لكن تكشف جانباً آخر من طموحه وشخصيته المثابرة. لقد أراد سارتر استهلاك كل ما لديه من القوة قبل الموت. إن المفكر التونسي فتحي المسكيني محق في وصفه لسارتر بـ"الفيلسوف المتعدد".
ضالة منشودةلا شكََّ أن معرفة سارتر بالمنهج الفينومينولوجي تُعد لحظة مفصلية في تطوره الفكري، ويجدُ القارئ تجلياته في سلوكيات بطل رواية "الغثيان"، إذ يعاين روكنتان ظواهر وجودية قائلاً: "إنني لا أستطيعُ حتى أن أتصور أنَّ شيئاً مما يحيطُ بي هو غير ما هو". إذاً كانَ سارتر فينومينولوجياً في مقاربته للأشياء حتى قبل أن يقرأَ نتاجات هوسرل، لكن ما أن يسمع من صديقه ريمون أرون عن المنهج الذي يمكنك من التحدث عن كوكتيل المشمش وتنشئ الفلسفة حتى يشرع بالبحث عن ضالته المنشودة والركيزة الأساسية في الظاهراتية هي: "الذهاب إلى الأشياء نفسها" تعلقُ صاحبة الكتاب على هذه العبارة موضحةً أنَّ منطق الظاهراتي يوفر عنك عناء البحث في التفاسير التي تتراكم على سطح الأشياء، بالتالي يجبُ الاهتمام بما هو واقع على مرمى النظر.
يقدمُ هوسرل الذي درس في فرايبورغ مفهوم فينومينولوجيا من خلال سلوكيات يومية، إذ كان يطلب من أحد تلامذته: "أعطني فنجان قهوتي وأنا أستطيع أصنع منه فينومينولوجيا"، فيمكن التعامل مع القهوة من حيث تركيبته الكيميائية وفصيلها النباتي وكيفية زراعتها، ولك اختيار آخر، تتجاهل الظاهراتية هذا الشق من الموضوع، بدلاً من ذلك تنصحك بتذوق نكهة القهوة ومراقبة تفاعل الجسد مع هذا السائل المنعش، ومن الأجدر بك، وفقاً لمنطق الظاهراتية، عندما يقع نظرك على صورة سعاد حسني، ألا تضيع وقتك بما دار حول ما قيل عن نهايتها، هل كانت انتحاراً أو اغتيالاً، إنما من الأفضل متابعة ما يقوله الإدراك بشأن قسمات وجهها وجمالها. يذكر أنَّ سارتر قد شدَّ الرحال نحو برلين، وبدأ بدراسة مؤلفات هوسرل، وتعلم المصطلحات الألمانية.
جدير بالذكر في هذا المقام أنَّ الحرب قد أرخت بظلالها على رؤية وحياة هؤلاء الفلاسفة الذين عاصروا المآسي البشرية الجسيمة. يفقد هوسرل أحد أبنائه في الحرب العالمية الأولى، ولقيت تلميذته النابغة إديث شتاين حتفها في المعسكرات النازية، ويعتقلُ ابنا الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر ويمضي سارتر أكثر من سنتين في جبهات القتال ومعسكرات الاعتقال. ويقتل بول نيزان برصاصة ألمانية، ومن الطبيعي أن تشهد الأفكار تحولاً على المستوى الأخلاقي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.