بينما كان بيتهوفن يُتحف النمساويين بسيمفونيته الخامسة في مسارح فيينا سنة 1808، كانت أوروبا تستعد لغزو إفريقيا، مؤسِّسة لحقبةٍ استعماريةٍ، دمويةٍ في ألطف أوصافها. تعكس هذه السيمفونية أفكاراً تنويرية تمجد الرجل الأبيض وتُعزِّز فيه زعمه مسؤولية تحضر الشعوب.
قبل ذلك بنصف قرن أعاد مونتسكيو نسج نظرية "طبيعة العبيد والأسياد" السقراطية، والتي أصبحت لاحقاً "نظرية المناخ"، في كتابه روح القوانين، مهدياً بذلك الحجج لدعاة الإمبريالية الأوروبية آنذلك لاستعباد كل إنسان "ملون". فيما انشغلت الكنيسة بفروعها طيلة القرنين الـ16 والـ17 بالتساؤل حول ما إن كان للأفارقة والشعوب الأصلية في العالم الجديد أرواح، أي هل يمكن اعتبارهم من البشر أم لا؟
لكن المؤكد أن العلوم والفنون ورجال الدين تواطأوا جميعاً ليعلنوا خلافة الرجل الأبيض على كل الكون، حتى إن هذا الأخير ذهب بطغيانه لحفر قبر للإله، الذي استباح باسمه أراضي ودماء الكثيرين.
أعاد مؤخراً مقتل "جورج فلويد" على يد الشرطة الأمريكية تداول "العنصرية العرقية" إلى الواجهة، الأمر الذي أدى إلى استهجان كثيرين، مع استغرابهم أكثر من تواصل تلك الممارسات العنصرية، والتي ظنوا أنها اندثرت، رغم النصوص الدولية والتشريعات، ورغم مضي 75 سنة تقريباً على نشر الميثاق الأممي لحقوق الإنسان.
لكن، هل يعني تجريم وتغييب مفهوم العرق من التداول انتهاء ظاهرة العنصرية، وهل يمكن تسمية ما نراه في زمننا الراهن لوناً معاصراً جديدا للعنصرية، وهل هي إذن ما يمكن تسميته طفرة جينية للعنصرية؟
نعم عنصرية، لكنها علمية وقانونية
بادر صُناع الإمبراطوريات منذ القدم إلى تطويع الأيديولوجيات كالأديان والمعتقدات والعلوم لخدمة مصالحهم. قد يستغرب البعض في أيامنا من فكرة أن يعتقد إنسان بأنه متفوق بيولوجياً على إنسان آخر بحجة اللون أو الانتماء الجغرافي. وقد يستغرب ويتعجّب أكثر أن فئة من البشر صدّقت وآمنت بفكرة أنها أقل من فئة أخرى، بل تبنّت الفكرة وحاربت مَن يعارض ذلك ويدعوها للحرية والمساواة، فضلاً عن سعي المستعبدين الدائم للتسيد.
وذلك خطأ شائع يقع فيه بعض من يذهبون إلى محاكمة فترة تاريخية في الماضي بأفكار وأخلاق الحاضر. فهذه الممارسات العنصرية كانت قانونية حينها ومثبتة علمياً أيضاً. بدءاً بالنظرية الداروينية للتطور، والتي طوعها النازيون لاستنتاج فكرة تفوق العرق الآري الذي مهّد لأيديولوجيتهم بمعية أبحاث أنثروبولوجية وألسنية، أضِف إلى ذلك الفكرة الدينية التي تروي أن سُمر البشرة هم أبناء حام "الملعون".
لكن تفطنت البشرية لعنصريتها في آخر قرنين، فانطلقت العديد من الحملات الحقوقية المناهضة للتمييز العنصري التي أفضت للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يفترض أنه وَضَعَ حداً للعنصرية، ربما إلى الأبد، لكنّ محرّري مجلة الفلسفة الفرنسية "Philosophie magazine" في عددها الـ138 ذهبوا للتساؤل "أين تبدأ العنصرية؟"، للبحث عن أسباب تواصل ظهور ممارسات عنصرية رغم تجريمها. أجمع المساهمون في الملف على أن المشكلة العنصرية تجدّدت في ثوب جديد، فبدل أن كانت تبدأ بـ"ذلك في دمائهم"، أصبحت "ذلك في ثقافتهم"!
موضة العصر.. العنصرية الثقافية
تتجنَّب الأحزاب اليمينية في أوروبا، التي تعارض هجرة المسلمين والأفارقة استخدام المعجم العنصري. مثلاً، ودّ كاتبو خطابات زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية مارين لوبانمثلاً،لو تذهب لتقول صراحة في التلفاز: "لا نريد هؤلاء الساميين والحاميين أن يلوثوا دماءنا الآرية النقية وحضارتنا الحداثية". لكن في الواقع، أمثال لوبان في حزب الحرية الهولندي، وحزب البديل الألماني، وكثيرون آخرون… يتجنبون ذلك ويسعون دائماً للتباهي بمبادئ الحضارة الغربية التي تطورت في أوروبا كقيم الديمقراطية والتسامح والمساواة… بينما يصرون على وصف الثقافة الإسلامية والآسيوية، التي تطورت في الشرق الأوسط بالفاشية السياسية والإرهاب والميزوجينية. نظراً لاختلاف الثقافات، يعجز كثير من المهاجرين على التأقلم مع القيم الغربية (ربما عدم قدرتهم أيضاً لعدم تماشيها مع تكوينهم الثقافي). لذلك يذهب الشعبويون الأوروبيون لاعتبار المهاجرين عناصر دخيلة على مجتمعاتهم، بل وتحميلهم مسؤولية أي جريمة أو فوضى. ناهيك عن الدعوات المتواصلة إلى منعهم تأشيرات للدخول واعتبارهم تهديداً للليبرالية والديمقراطية الغربية.
بطبيعة الحال، أسهم تطور العلوم الاجتماعية والإنسانية مع الأسف في تدعيم العنصرية الثقافية، كما سبق مع العنصرية العلمية، بدراسات سوسيو-علمية ونتائج على المقاس حسب أحكام مسبقة وبتواطئ من بعض علماء النفس والأنتروبولوجيا والتاريخ. ساهمت هذه الدراسات العلمية والحجج الثقافية في تغذية وتدعيم عديد من الكليشيهات التي جمعت تحت مصطلح صراع الحضارات أو clash of civilisations.
أضف إلى ذلك تخاذل الكثير من المغتربين، أولئك الذين مَن عليهم السيد الأبيض بثقافته، لكن زرع فيهم، حسب فرانز فانون، احتقاراً للذات واغتراباً بين بني جلدتهم. حيث يميل هؤلاء إلى التودد إلى المهيمنين ثقافياً من منظري الثقافة الغربية الليبرالية، عبر تبنّيها واستثمارها في تكوين رأسمال ثقافي يستعملونه عادة في الحطّ من قيمة الموروث الثقافي في أوطانهم. بل ويردون سبب "تخلف" أقوامهم إلى هذا الموروث لا إلى تقاعسهم، ومن شابههم في معالجة هذا الموروث وتطويعه مثلاً في وضع أسس معالجة وتطوير للعقل العربي، كما دعا البروفيسور محمد عابد الجابري، الذي يرى أن ما يسمى صراع الحضارات هو في الحقيقة صراع بين الحضارة الغربية ونتاجها.
إذن يمكننا الحديث هنا عن طفرة جينية للعنصرية، فبعد تجريمها بيولوجيا، ارتدت ثوب الثقافة بكل وقاحة تحت مباركة وأنظار العالم. العالم نفسه الذي هلل للعنصرية العرقية قبل قرون مضت، والعنصرية الجنسية قبل ذلك، يتباهى ويهلل الآن للعنصرية الثقافية. مازالت العنصرية تتلون بلون اللحظة حتى تبدو قدراً محتوماً، لكن قد يختلف الأمر برمته إذا ما بادر علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا إلى ما عمد إليه علماء البيولوجيا من قبل حين أقروا ألّا فرق بين الأعراق.
لكن.. كيف ستمول أبحاثهم؟
هذا هو جوهر العلاقة بين العلم والمال. أفادت الدراسات البيولوجية قديماً الأنظمة الكولونيالية حينها في توسيع إمبراطورياتها، لدرجة أن عيون الملكة صارت تُبصر الشمس على الدوام. وفي أيامنا هذه تؤسس الدراسات الاجتماعية للعنصرية الثقافية، تسترزق لوجودها من خلال توفير الحجج والبراهين للأنظمة الليبرالية الحالية حتى تحكم وصايتها على من خالفوا ثقافتها. وحتى إن تابوا "ثقافياً"، تقبل توبتهم على مضض، وتبقى الأعين ترصدهم بحذر، عسى أن يتهور أحدهم بأي عمل لا يتطابق مع الثقافة الأوروبية، فيمضوا في جلده وقومه كما جلد "إدوين إبس" المسكينة "باتسي" بيدي "بلات"، فقط لأنها لم تستأذن للبحث عن صابونة لتستحم.
قبل الختام، وصف الفيلسوف كلود ليفي ستراوسمحاضرته "العرق والثقافة" أمام أعضاء اليونسكو سنة 1971 بـ"لقد كانت فضيحة جميلة". في هذه المحاضرة، اعتبر ستراوس أن تبرير الاختلافات الثقافية بالاختلافات البيولوجية، والتي تفضي إلى هرمية بين الأعراق "فضيحة".
تترسخ العنصرية والتفرقة داخل المجتمعات المضطهدة، لكن مع اختلاف في الأسماء، حيث تسمى بالجهوية في تونس، القبلية في ليبيا، في حين تتجلى في النظرة الدونية للصعايدة والنوبيين في مصر، وأخيراً أزمة العنصرية تجاه الفلسطينيين والسوريين في لبنان.
ربما تكون القطيعة الاجتماعية التي يعيشها المهاجرون في أوروبا هي نتيجة الأحكام المسبقة التي ووجهوا بها، فيكتفون بالعيش في شكل تجمعات طائفية/عرقية/قومية، وكأنهم يقولون "تروننا متخلفين، إذاً سنعيش كقبائل منفردة داخل مجتمعاتكم المنسجمة". ربما هذا أيضاً سبب توجه العديد من أفراد الجيل الثالث من المهاجرين في فرنسا مثلاً نحو التطرف الديني، رغم تربيتهم في المدارس الوطنية الفرنسية. قد تتعدد النتائج وتختلف، لكن المؤكد أن ظاهرة العنصرية لن تنتج إلا عنصرية أشد في حلقة لا متناهية. كما ستبقى حائلاً أما الفردانية المطلقة التي نظر لها فلاسفة "ما بعد الحداثة"، خاصة في ظل الإصرار على محاكمة الأفراد بأحكام مسبقة بناء على النمط الاجتماعي.
[1] https://en.wikipedia.org/wiki/Symphony_No._5_(Beethoven)
[2] تحديدا مسرح : Theater an der Wien
[3] Montesquieu, L'Esprit des lois, 3e partie, Livre XIV, chap. X.
[4] مركز الولايات الغربية. الرابط:
[5] يصف نيتشه على لسان المعتوه قاتلي الإله بحفار القبور في مقدمته الثانية، فقرة 8 و9 من كتاب "هكذا تحدث زراديشت". تؤسس هذه القولة لمرحلة ما بعد الحداثة، إلا أنها تسلط الضوء على مدى تقدم العلوم حينها إلى درجة أن تزلزت مكانة الدين في قلوب المجتمعات الأوروبية في ذلك الوقت.
[6] G.W.F. Hegel, Phenomenology of Spirit, translated by A.V. Miller with analysis of the text and foreword by J. N. Findlay (Oxford: Clarendon Press, 1977); Paragraph 179, Pg. 111.
[7] Yuval Noah Harari, Homo sapien : a brief History of tomorrow. Cloth edition published 2014, Enland. P 258.
[8] مقال الباحث أحمد الدبش "لعنة كنعان". الرابط: https://www.aljazeera.net/blogs/blogs/2017/9/20/%D9%84%D8%B9%D9%86%D8%A9-
%D9%83%D9%86%D8%B9%D8%A7%D9%86
[9] Dossier : " Où commence le racisme ? ". lien : https://www.philomag.com/les-idees/dossiers/ou-commence-le-racisme-42765
[10] الاغتراب/الاستلاب المكاني/الجغرافي كما تحدث عليه هرتموت روزا في كتابه: "Aliénation et accélération"
[11] مقال لرائد الوحش ""بشرة سوداء.. أقنعة بيضاء" لفرانز فانون: عن كتاب لا يزال مظلوماً". الرابط: https://www.ultrasawt.com/%D8%A8%D8%B4%D8%B1%D8%A9-%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D8%A1-%D8%A3%D9%82%D9%86%D8%B9%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D8%B6%D8%A7%D8%A1-%D9%84%D9%81%D8%B1%D8%A7%D9%86%D8%B2-%D9%81%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86-%D8%B9%D9%86-%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D9%84%D8%A7-%D9%8A%D8%B2%D8%A7%D9%84-%D9%85%D8%B8%D9%84%D9%88%D9%85%D9%8B%D8%A7/%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D8%AF-%D9%88%D8%AD%D8%B4/%D9%85%D9%86%D8%A7%D9%82%D8%B4%D8%A7%D8%AA/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9
[12] انتهى محمد عابد الجابري في سلسلته "نقد العقل العربي" إلى أن العقل العربي بحاجة إلى إعادة ابتكار وإعادة النظر في المفاهيم التي تشكله، لا عكس ما ذهب إليه الكثير من المثقفين العرب في إنكار الماضي المشترك، ما أدى إلى التيه والتشرذم بين الحضارات والثقافات، وهو ما أدى إلى تعمق الأزمة.
[13] هاجر عبيد، الجابري، عن صراع الحضارة الغربية مع نتاجها، موقع الساقية. تاريخ الاطِّلاع: 08 جوان 2020. الرابط: http://www.saqya.com/%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D8%B9-%D9%86%D8%AA%D8%A7%D8%AC%D9%87%D8%A7/#:~:text=%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF%20%D8%B9%D8%A7%D8%A8%D8%AF%20%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A7%D8%A8%D8%B1%D9%8A%3A%20%D9%85%D9%81%D9%83%D8%B1%20%D9%88%D9%81%D9%8A%D9%84%D8%B3%D9%88%D9%81,%D8%AA%D9%85%D9%8A%D9%91%D8%B2%D9%87%20%D8%A8%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82%D8%A9%20%D8%AE%D8%A7%D8%B5%D8%A9%20%D9%81%D9%8A%20%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1%E2%80%9D.
[14] إشارة إلى ملكة إنجلترا التي امتدت إمبراطوريتها حتى سميت "الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس"
[15] scene of movie: "12 years a slave". Link : https://www.youtube.com/watch?v=aDOTkfUtJKs
[16] Racisme, antiracisme et cosmologie lévi-straussienne. Lien : https://journals.openedition.org/lhomme/29406
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.