الاحتلال الفرنسي للجزائر يعد واحداً من أطول الاحتلالات وأكثرها بشاعة في التاريخ الحديث، وخلال أكثر من 132 عاماً (منذ العام 1830 حتى العام 1962) قدم أبناء الجزائر أرواحهم فداءً لتحرير وطنهم، الذي صار اسمه الجديد "بلد المليون شهيد".
لكن كيف، ولماذا احتلت فرنسا الجزائر؟ وكيف حاولت خلال أكثر من قرن وربع القرن طمس هوية الجزائر واستبدالها بهوية فرنسية؟ وكيف نجحت المقاومة ووعي الشعب في التحرر من قبضة الاحتلال للأرض والفكر؟ هذا ما نناقشه بالتفصيل في التقرير التالي عن الاحتلال الفرنسي للجزائر:
الاحتلال الفرنسي للجزائر وحادثة ضرب القنصل
بدأت قصة الشعب الجزائري مع المعاناة في عام 1827، عندما وقعت معركة نافارين، التي دارت بين الأسطول العثماني ومعه الجزائري والمصري، وبين الأساطيل البريطانية والفرنسية والروسية من جهة أخرى.
انهزم العثمانيون في خليج نافارين جنوب غرب اليونان، وكانت هذه بداية النهاية والانهيار البحري للأسطول العثماني، وسقوط الجزائر بعدها بأعوام تحت الاستعمار الفرنسي، ونقطة محورية في انفصال اليونان عن الحكم العثماني.
انتهزت فرنسا في هذا الوقت ضعف الدولة العثمانية والجزائر، خصوصاً أن أسطول الجزائر البحري قد انهار، وأصبحت المياه الإقليمية الجزائرية مفتوحة أمام القوات الفرنسية، التي كانت تخطط لاحتلالها قبل أعوام، وكان لذلك أسباب وعوامل مختلفة، كموقع الجزائر على البحر المتوسط، والاستفادة من خيرات هذا البلد ومن الكوادر البشرية فيه، واستعادة هيبتها كقوة استعمارية.
في عام 1827، اتخذت فرنسا من الحادثة المشهورة باسم "مروحة الداي" ذريعة لها لاحتلال الجزائر، والحادثة باختصار هي أن الداي حسين حاكم الجزائر في تلك الفترة، ضرب قنصل فرنسا على وجهه بمروحة يده ثلاث مرات، عندما لم يُجب القنصل عن سؤال الداي بشأن ديون فرنسا للجزائر، فاعتبرت فرنسا أن هذه إهانة كبيرة لها، ففرضت حصاراً على البلاد لمدة 3 أعوام، كما ورد في الكتاب التاريخي "كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الأمير عبدالقادر تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى لعلي محمد محمد الصلابي".
الاحتلال الفرنسي للجزائر بدأ بشن باريس هجماتها على ميناء طولون، بمشاركة 37 ألف جندي، ومع حلول 14 يونيو/حزيران 1830، تمكَّنت الحملة الفرنسية من الوصول لمنطقة سيدي فرج، وأحكمت قبضتها على البلاد، وفي 5 يوليو/تموز من العام ذاته، سلم الداي حسين مدينته للقوات الفرنسية ليبدأ الاحتلال الفرنسي للبلاد، الذي بدأ مباشرة بمحاولاته لتجهيل الشعب الجزائري والتلاعب بثقافته، بل وحاول تغيير دينه.
جرائم الاحتلال الفرنسي في الجزائر ومحاولات طمس الهوية
اتخذت الاحتلال الفرنسي للجزائر سياسة واضحة منذ البداية، وهي محو ثقافة البلاد وتحويلها إلى ثقافة تبعية، تتبع فرنسا بشكل كامل، تفكك فيها أوصال المجتمع الجزائري الأصيلة، واتخذت في ذلك عدة خطوات، أولها سياسة ارتكاب الجرائم والإبادة الجماعية، لتغيير ديموغرافية البلاد، والقضاء على مقاومة الشعب الجزائري من البداية.
وهذه كانت رؤية الجنرال الفرنسي بيجو، الذي حل بالجزائر سنة 1841، ويقول مؤلفو كتاب "جرائم الاحتلال الفرنسي في الجزائر"، على لسان أحد الضباط الفرنسيين: "لقد كانت حملتنا تدميراً منظماً أكثر منها عملاً عسكرياً، نمضي أوقاتنا في حرق القرى والأكواخ"، ويقول: "آه أيتها الحرب كم من نساء وأطفال تجمعوا في جبال الأطلس العالية المكسوة بالثلوج فماتوا هناك من البرد والجوع".
وثاني خطوات الاحتلال الفرنسي للجزائر وأكثرها خطورة هي محاربة اللغة العربية، وإجبار الأهالي على استعمال الفرنسية، والتي جعلوها هي اللغة الرسمية وحدها، في الروضة والمدرسة والجامعة، وقامت فرنسا بإنشاء إدارة جديدة مفرنسة، وعملت على شطب الأسماء العربية للمدن والشوارع والمعالم، واستبدلتها بأسماء فرنسية.
كما عملت على إصدار عدة مراسيم لـ"فرنسة التعليم"، ومنها مرسوم عام 1904، والذي يقضي بمنع أي معلم من فتح مدرسة قرآنية إلا بترخيص وشروط كثيرة جداً، بعد التزامه بجملة من الشروط التعجيزية، ثم أصدرت قانون عام 1938، الذي قضى بحظر استعمال اللغة العربية، بل واعتبارها لغة أجنبية، كما تم العمل بشكل منهجي على تدريس جغرافيا وتاريخ فرنسا على أنهما جغرافيا وتاريخ الجزائر، وتشويه التاريخ الإسلامي.
وكان التنصير من خطوات الفرنسيين في الجزائر، حيث تم تحويل أغلب من المساجد إلى كنائس وثكنات وإسطبلات، وتم تشجيع البعثات التبشيرية للانتشار في البلاد لتنصير الشعب، ومحاولة لإنهاء الإسلام لديهم، وتمت مصادرة الأوقاف الإسلامية، وجعلها تحت تصرف المبشرين، وكان الكاردينال لافجري من أشد المتحمسين للتنصير، الذي قال: "علينا أن نجعل من أرض الجزائريين مهداً لدولة مسيحية… تلك هي رسالتنا"، وسيطر الفرنسيون أيضاً على الطرق الصوفية لتنشر الخرافات التي تضر بمفاهيم الإسلام.
وبطبيعة الحال قام الفرنسيون بعمليات إفقار للشعب الجزائري، من خلال اغتصاب وسلب الأراضي الزراعية الخصبة، وإعطائها للمعمرين من فرنسيين أو من المتفرنسنين، الذين تم جلبهم من دول أوروبية عدة، وبعد تجريد الشعب الجزائري من ممتلكاته أخضعته لقوانين قاسية، ومنها قانون الأهالي عام 1871، والذي فرض عليه حمل رخصة تجيز له التنقل من مكان لآخر داخل وطنه، فإذا لم تكن بحوزته يعاقب، وقد أصاب الجزائريين نتيجة هذه السياسة فقر مدقع.
كل هذه العوامل كانت تصب في فكرة الدمج التي كانت تعمل عليها فرنسا، في سبيل اقتلاع الجزائر من محيطها العربي والإسلامي، وتذويبها في الكيان الفرنسي بشكل قانوني، بعد إصدار مرسوم عام 1834، الذي اعتبر الجزائر أرضاً فرنسية، وفي عام 1912 أصدرت قانون التجنيد الإجباري على الجزائريين في الجيش الفرنسي باعتبارهم رعايا فرنسيين.
لكن أهل الجزائر استمروا في المقاومة حتى آخر يوم
على الرغم من سياسة فرنسا الممنهجة والشرسة ضد الشعب الجزائري، فإن الشعب الجزائري قاوم قوات المحتل الفرنسي وقراراته منذ أولى سنوات الاحتلال، وخاض ثورات كثيرة ضد المحتل بقيادة علمائه وشخصياته البارزة، وكانت أولها ثورة عبدالقادر بن محيي الدين عام 1832، وكان بينه وبين الفرنسيين صولات وجولات أزعج فيها القوات الفرنسية، ولكنه سقط في الأسر عام 1847.
وقد تبعته عدة حركات لمقاومة المحتل والثورة عليه، كمقاومة أحمد باي في منطقة قسنطينة عام 1837، وثورة محمد بومعزة عام 1854، ومقاومة الخليفة أحمد بن سالم في الأغواط، وثورة الزعاطشة عام 1848، والكثير من الثورات التي استمرت حتى نهاية القرن التاسع عشر، وكانت تسبب الإزعاج للمحتل، ولكن كانت تواجه بكل شراسة من الفرنسيين، وفقاً لكتاب الصلابي.
الوعي الثقافي في مواجهة الاحتلال الفرنسي للجزائر
تقول دراسة جزائرية اسمها "بوادر الوعي الفكري والثقافي وسط الجزائريين (1900-1930)"، إن بداية القرن العشرين تعتبر مرحلة ضعف المقاومات المسلحة، ولكنها شهدت قيام الجزائريين برفع مطالبهم ورفضهم للالتحاق بالجيش الفرنسي والهجرة، وذلك بالتزامن مع ظهور نخب مثقفة.
وفي تلك الفترة ظهر العالم الإصلاحي الجليل عبدالحميد بن باديس، أحد أشهر علماء عصره المتفانين في نشر العلم والمعرفة، أيضاً مجاهداً سياسياً اتخذ طريق النشاط الإصلاحي، حيث قام بتأسيس مكتب للتعليم الابتدائي العربي عام 1926 انبثقت عنه في عام 1930 مدرسة جمعية التربية والتعليم الإسلامية، وهي الجمعية التي أصبح لها نحو 170 فرعاً في مختلف مناطق الجزائر.
جاهر حميد بن باديس بعدم شرعية الاحتلال الفرنسي للجزائر، وأحيا فكرة الوطن الجزائري بعد أن ظنّ كثيرون أن فرنسا نجحت في جعل الجزائر مقاطعة فرنسية، وكان من المساهمين في إفشال فكرة اندماج الجزائر مع فرنسا التي خُدع بها كثير من الجزائريين، واستعمل الصحافة لنشر فكره الإصلاحي من خلال إصدار جريدة المنتقد عام 1925، التي تولى رئاسة تحريرها، ثم جريدة الشهاب في نفس السنة.
أسهم بمواقفه وآرائه في إثراء الفكر السياسي بالحديث عن قضايا الأمة، ففي عام 1936 دعا لعقد مؤتمر إسلامي بالجزائر لإفشال فكرة اندماج الجزائر مع فرنسا، كما شارك ضمن وفد المؤتمر الإسلامي المنعقد بباريس عام 1936، ودعا نواب الأمة الجزائريين إلى قطع حبال الأمل في الاتفاق مع الاستعمار، وأعلن رفضه مساعدة فرنسا في الحرب العالمية الثانية، وكان لأفكاره الإصلاحية أثرها الكبير في قيام ثورة التحرير الجزائرية.
كما ساعدت التنظيمات السياسية على تطور إرادة الشعب إلى العمل المسلح العسكري، مثل حركة نجم شمال إفريقيا الذي ظهرت في سنة 1926 في باريس بقيادة مصالي الحاج، انتقل هذا التنظيم إلى الجزائر سنة 1933، وتحول إلى حزب الشعب الجزائري سنة 1937، ثم إلى حركة انتصار الحريات الديمقراطية سنة 1946.
ثم سنة 1947 أسست داخل الحركة المنظمة الخاصة وهي منظمة سرية عسكرية مكونة من بعض مناضلي الحزب الأشدّاء هدفها القيام بعمليات عسكرية وهي المهد الذي تولدت منه المجموعة التي فجّرت الثورة في سنة 1954، وحركات سياسية وثقافية أخرى استعرضها كتاب "دراسات في تاريخ المغرب العربي المعاصر لمحمد علي داهش".
انشقاقات وصراعات الثوار قبل الثورة
في خضم حركات الثورة والمقاومة ظهر انشقاق داخل حركة "انتصار الحريات الديمقراطية" في عام 1953، وتحديداً بين رئيس الحركة مصالي الحاج وأعضاء اللجنة المركزية للحركة، وقد تسبب هذا الانقسام في إحداث أزمة كبيرة وعرقلة الحركة والمناضلين في المنظمة الخاصة.
ثم تدخل السياسي الجزائري محمد بوضياف مع بعض قيادي اللجنة المركزية، وهم لحول حسين ومحمد دخلي وسيد عبدالحميد لحل الخلاف، بتكوين لجنة أعطي لها اسم اللجنة الثورية للوحدة، بهدف توحيد صفوف الحركة المنقسمة والدفع بها إلى القيام بالثورة، ولكن هذه المساعي باءت بالفشل.
ولكنه سعى إلى جمع ما أمكن من مناضلي المنظمة الخاصة المشردين، وتمكن من الاتصال بواحد وعشرين منهم، وجمعهم في المدينة في بيت المناضل إلياس دريش، في شهر يوليو/تموز 1954، وقرّروا القيام بالثورة.
فيما يعتقد بعض المؤرخين الجزائريين، أن الخلاف بين قيادات الثورة الجزائرية يعود إلى ما قبل عام 1954، وذلك عندما عجز السياسيون في القضاء على النظام الاستعماري، وانشغالهم بالصراع حول مقاعد مختلف المجالس في الانتخابات التي كانت تنظمها الإدارة الاستعمارية قبل عام 1954، ثم تزايد عداء العسكريين للسياسيين بعد تخلي سياسيّي الحركة من أجل الانتصار للحريات الديمقراطية، عن أعضاء المنظمة الخاصة الشبه العسكرية، بعد اكتشافها عام 1950.
لكن الخلاف انتهى بتوحد لإشعال فتيل الثورة المسلحة عام 1954، بل أيضاً إنقاذ الحركة الاستقلالية، الممثلة في الحركة من أجل الانتصار للحريات الديمقراطية من الانفجار بفعل الصراع بين المصاليين، التابعين للمصالي والمركزيين، وقد أدت هذه العوامل كلها إلى احتقار العسكريين للسياسيين وعدم الثقة فيهم.
حرب التحرير الجزائرية
اندلعت حرب التحرير الجزائرية في أول نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1954، بمشاركة حوالي 1200 مجاهد جزائري، كان بحوزتهم أسلحة وبضع قنابل تقليدية، فسارعت القوات الفرنسية إلى سجن كثير من الجزائريين في محاولة فاشلة لإحباط الثورة من مخططات عسكرية كبرى.
بعد أيام تم اغتيال أبرز قيادات ومفجري الثورة، وهو رمضان بن عبدالمالك، وأسر أحمد زبانة في معركة "غار بوجليدة"، وباجي مختار وبلقاسم قرين، عندها أصدرت جمعية العلماء الجزائريين المسلمين بياناً وقعه الشيخ البشير الإبراهيمي في القاهرة، دعا فيه إلى الالتفاف حول الثورة.
وعلى الرغم من قلة الإمكانات لدى المقاومين الجزائريين، أمام قوة الفرنسيين الكبيرة، فإنهم استطاعوا تنفيذ بعض العمليات المصنفة ضمن حرب الشوارع، كما مارسوا الحرب النفسية ضد الفرنسيين، واستطاعوا إحداث التغيير بعد أن حصلوا على دعم الشارع الجزائري للثوار الجزائريين، وكان تأثيره أقوى من السلاح.
استطاعت جبهة التحرير بصفتها الجهة الوحيدة المعبرة عن تطلعات الجزائريين في الاستقلال، جذب فئات مختلفة من الشعب من الوجهاء المحليين، والعلماء، والجبهات الإسلامية التي شاركت في الحرب ضد المستعمر، فانطلقت الإضرابات العمالية في الجزائر، حيث بدأت بإضراب عام في مصنع (سومل)، لمدة 24 يوماً، وقد نجح هذا الإضراب، لتتوالى فيما بعد الإضرابات الناجحة التي زادت من الضغوطات على الحكومة الفرنسية، إضافة لحصول الثوار على تأييد الجزائريين في فرنسا، ومثقفي فرنسا أنفسهم.
ثم في عام 1959 أصبح شارل ديغول رئيساً لفرنسا، وتحدث بعد توليه عن حق تقرير المصير للجزائريين، وهو ما اعتبره المستوطنون الفرنسيون خيانة لهم، فقاموا بتمرد في الجزائر، مدعوم من بعض وحدات الجيش، إلا أن التمرد فشل، ومثّل ذلك نقطة تحول في الموقف الرسمي الفرنسي.
وبعد ذلك بعامين، انطلقت محادثات إيفيان في فرنسا، بين الحكومة الفرنسية وجبهة التحرير، واستمرت مدة عام مع وقف إطلاق النار، وفي الثالث من يوليو/تموز عام 1962، تم توقيع مرسوم استقلال الجزائر، غير أن جبهة التحرير أقرت الخامس من يوليو/تموز يوماً للاستقلال، وغادر جميع الفرنسيين من الجزائر بعد احتلال دام أكثر من 132 عاماً، لينتهي بذلك الاحتلال الفرنسي للجزائر.