قبل زمن بعيد اخترع البشر الرسائل للتواصل مع الأحباب، ساكني القلب، بعيدي المنال عن العين، مَن تفصلنا عنهم أميال، ويربطنا بهم الشوق والحنين للقاء.
ومع توالي القرون والسنون عُدّت الرسائل أكثر الطرق جاذبية للتواصل مع سكان الفؤاد، بعيدي المكان. وفي خضم قراءتي لكتاب "رسائل سقطت من ساعي البريد" للكاتب المصري يوسف الدموكي، حصلت على جرعة مكثفة من الشاعرية، وجدت بين ثنايا الكتاب رسائل غارقة من الرأس إلى أخمص القدم في الحب والشوق، تقطر عذوبة وصفاء، وحنيناً كاملاً لكل من حالت بيننا وبينهم ظروف الحياة اليومية الطاحنة عن لقائهم.
في ظل ظروف جائحة كورونا الحالية، التي غيّرت شكل حياتنا بالكامل باتت الحياة صعبة جداً، بالنسبة لي أنا أفتقد أصدقائي وجلسات القهوة في عطلات أيام الآحاد والجمعة، أفتقد المشي الطويل على كورنيش النيل، والسير في الشوارع وأنا أدخن لفافات التبغ دون القناع الخانق الذي أتمنى أن يحميني من الفيروس اللعين.
بعد ثلاثة أشهر فقط من طرح الرسائل في نسخة ورقية نشر الكاتب رابط التحميل مجانًا للجميع، لتهوين وقت حظر التجوال والحجر الصحي على متابعيه. بالنسبة لي، فبعد اقتطاع جزء كبير من راتبي لمصاريف المنزل، وجزء أصغر لتسديد ديون مستحقة، وجزء ضئيل للبُن والتبغ والسجائر، بالكاد يتبقى لي مبلغ يكفي تمرير الشهر بمصاريف مُقترة، ولا يتبقى لي أحياناً أي مال لشراء الكتب؛ لذلك وجدت تحميل كتابٍ مجانيٍّ وقراءته لتهوين وقت العزلة فرصةً ثمينةً جداً، لا يجب أن تضيع. حملت الكتاب، وبدأت في القراءة، ووجدت الدموكي يعزف بكلمات شاعرية مجموعة من النصوص حول الفراق والاشتياق والحنين إلى الوطن، كما الرغبة في عودة الأبناء لأحضان أمهاتهم، وعودة الرجال لأحضان زوجاتهم، وعودة المسافر لرفاقه، وحديث يطول عن الشوق والقهر من الغربة والفراق.
بين طيات الكتاب عثرتُ على رسائل افتراضية تحكي عن مشاعر مشجّعي الأهلي والزمالك قبل ساعات من مواجهتهم الموت، رسائل تحكي عن خوفهم من أهلهم عند العودة، وعن العقاب الذي سيتلقونه بسبب الكذب حول أماكن وجودهم. وقرأت رسائل من جندي حرب مصري عام 1967، كان يمنّي نفسَه بالعودة سالماً للزواج من ابنة خالته. ورسائل أخرى من الأسطی عطية، الذي بالرغم من أنه رجل شديد صارم فإنه لا يتحمل الغربة في القاهرة من أجل لقمة العيش، ويود العودة لجدران بيته وحضن زوجته الحبيبة الثرثارة. وخطابات من وإلی حجاج بيت الله الذين غرقت بهم عبّارة "السلام 98″، والكثير من الخطابات الفردية من الناس لأنفسهم، كلمات لا نقولها لأحد سوانا، نكتبها من فرط وحدتنا لنُعزّي أنفسنا.
رسائل من بائعة المناديل في الطرقات، وعامل النظافة الذي لا نلاحظه إلا حينما يغيب ونحن نملأ الشوارع بالقمامة، من بائع الروبابيكيا الذي لا نلاحظ منه إلا نداءه، وملمع الأحذية الذي لا يرغب إلا في كسب رزق حلال، وأن يتوقف الناس أمامه ويكفوا عن النظر إليه من أعلى لينظروا إليه وجهاً لوجه، من امرأة مطلقة أو أرملة لا يتوقف الناس عن أكل سيرتها التي يلوكُونها في أفواههم كالعلكة، معتبرين أنها صائدة رجال أو بائعة هوی، لمجرد أن الموت اختار زوجها أو استحالت الحياة مع رجُلها.
الكتاب يتكون من عدة فصول، الفصل الواحد قد يضم أكثر من رسالة لأشخاص عدة، وبعض الفصول تضم عدة رسائل من شخص واحد، مثلما وجدت في ذاك الفصل الرجل الذي يحكي عن المرار الذي ذاقه كي يخرج من بلده للعمل في بلد يمكنه أن يدفئ جيبه بالمال. ثم بعد ذلك يحكي عن مشاعر الغربة الأولی، وصولاً للاعتياد علی الغربة والنجاة بشكل مستمر من الجنون الذي تسببه الوحدة. ومثل رسائل الوحيد المكتئب رفيق الأرق والحزن، الذي يحكي عن معاناته اليومية في إيجاد من يرافقه أو يراه، من يحدثه عن حزنه أو عن تراكماته الكثيرة المدفونة بداخله، عن عمره الذي مضی في الوحدة، يتيماً بلا أب ولا أم، بلا أهل، وبلا أصدقاء، وبلا حبيبة تنجب له أبناء يتمنی أن يراهم أفضل منه يوماً ما قبل أن يموت، قبل أن يموت في وحدته.
الرسائل ذكّرتني في شاعريتها ولغتها الرقيقة الإنسانية برواية "بريد الليل"، للكاتبة اللبنانية "هدى بركات"، وفي بعض الأحيان التي تحدَّث فيها يوسف باللهجة الصعيدية ذكّرني بـ"جوابات الأسطى حراجي" للشاعر المصري عبدالرحمن الأبنودي.
كتاب مُبكٍ وجميل، يجعلنا ندرك أننا جميعاً ضعفاء أمام الكلمات التي تحمل في طيّاتها ما يُشبهنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.