تُوصف الحرب الأهلية الأمريكية بأنها الحرب الأكثر دموية في تاريخ البلاد التي تأسست عام 1776، وانتهت بعد 4 سنوات من الصراع الدموي في عام 1865 بفوز "جيش الاتحاد" على الكونفيدراليين.
ففي عام 1861 أعلنت 7 ولايات جنوبية من أصل 32 ولاية أمريكية الانفصال عن الحكومة المركزية، وشكلت هذه الولايات حكومة كونفيدرالية مستقلة، توسّعت فيما بعد لتشمل 11 ولاية، إذ كان الانفصاليون يؤمنون بأن لكل ولاية الحق في الانفصال وترك الاتحاد في أي وقت.
كما أن القوانين الاقتصادية والضرائب التي فرضتها الحكومة المركزية في واشنطن على الولايات كانت سبباً أساسياً للانفصال، فضلاً عن دعوة الاتحاد إلى الحد من تجارة الرقيق التي كان يعتمد عليها الجنوبيون بشكل أساسي في اقتصادهم.
وهكذا بدأ صراع طويل بين الطرفين انتهى باستسلام جميع الجيوش الكونفيدرالية وحل حكومة الجنوب، وزج رئيس الكونفيدراليين جيفرسون ديفيس في السجن.
وفي حين يعلم أغلبنا قصة الحرب الأهلية الأمريكية، إلا أنه يخفى على كثيرين تفاصيل هجرة مؤيدي الكونفيدرالية إلى البرازيل بعد هزيمتهم، وتأسيسهم لمستعمرات هناك ساهمت بشكل واضح في تقدم الدولة وازدهارها سيما في مجال الزراعة والتكنولوجيا.
فلنتعرف على القصة كما وردت في موقع All That's Interesting الأمريكي.
رحيل الكونفيدراليين إلى البرازيل بعد الحرب الأهلية
بعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية، لم يستطع أعضاء مجلس الوزارة الكونفيدرالية السابقة ومؤيدوهم من أمثال الكولونيل ويليام هاتشينسون نوريس والرائد لانسفورد هاستينغز، من العيش في كنف حكومة واشنطن التي كانت في نظرهم "احتلالاً"، لذا وجدوا أن الحل الأمثل هو الرحيل إلى إمبراطورية البرازيل.
وفعلاً استوطن أولئك في جنوب البرازيل وتبعهم ما يقارب 10 إلى 20 ألفاً من مؤيدي الكونفيدرالية ليعيشوا هناك حياة معزولة ويؤسسوا مستعمرات لها قواعدها الخاصة.
الخروج الكبير لمؤيدي الكونفيدرالية
هجرة الكونفيدراليين إلى البرازيل لم ترُق لرئيس الولايات الكونفيدرالية السابق جيفرسون ديفيس الذي خرج من السجن بعد عامين من اعتقاله، كما لم ترُق كذلك لقائد جيش القوات الكونفيدرالية روبرت إدوارد لي، وقام الرجلان بحثّ الجنوبيين على البقاء في الولايات السابقة للكونفيدرالية وإعادة بنائها.
غير أن مَن غلبهم الكبرياء ومنعهم من قبول الهزيمة، أو مَن صُودرت أراضيهم من جانب السلطات الفيدرالية في واشنطن، شعروا بأنهم لم يعد لديهم خيار إلا البدء من جديد خارج أمريكا.
وإلى جانب البرازيل، هاجر مؤيدو الكونفيدرالية إلى وجهات عدة أخرى منها هندوراس والمكسيك بل وحتى مصر، حيث وجهت الدعوة إلى ضباط سابقين في الجيش الكونفيدرالي لشغل مناصب عسكرية.
لكن أولئك الذين رسخ لديهم الإيمان بتفوق العرق الأبيض وجدوا أن البرازيل هي الوجهة الأفضل، خاصة أن البرازيل كانت لا تزال تسمح بامتلاك الرقيق في ذلك الوقت.
البرازيل.. الوجهة الأكثر إغراء للكونفيدراليين
في عام 1865، كانت البرازيل تحت حكم دوم بيدرو الثاني، أحد أبناء سلالة أسرة ملكية برتغالية، وقد كان مهتماً بجذب الأجانب إلى بلاده.
وفرّ بيدرو الثاني موانئ آمنة لسفن الكونفيدراليين إبان الحرب، ورغم معارضته الشخصية للعبودية، فإنه لم يجد ضيراً في دعوة اللاجئين المؤيدين للعبودية إلى البرازيل لزراعة القطن والمساعدة في تحديث مجال الزراعة في المنطقة.
كان دوم بيدرو ينشر الإعلانات في الصحف التي توزع في كافة أرجاء الكونفيدرالية السابقة، وبهذه الإعلانات صوّر بلاده على أنها بلد ينعم بالرخاء ومناسب للاستقرار ومتسامح مع العبودية.
ووفر إمبراطور البرازيل للكونفيدراليين وسائل نقل إلى البرازيل وأتاح لهم أراضي للزراعة مقابل مبلغ زهيد قدره 22 سنتاً للفدَّان.
انجذب آلاف الجنوبيين انجذاباً هائلاً لهذا العرض، وعلى الفور باعوا ممتلكاتهم وبدأوا في الانتقال إلى إمبراطورية دوم بدرو.
زعيم ماسوني أبرز المشجعين على الهجرة
كان الكولونيل ويليام نوريس أحد أبرز المشجعين على الاستقرار خارج أمريكا بعد نهاية الحرب الأهلية.
ونظراً لأن نوريس كان سيناتور ولاية سابق في مقاطعة دالاس بولاية ألاباما، وزعيماً لأحد المحافل الماسونية فيها، وأحد رموز الحرب المكسيكية الأمريكية، قرر أنه لا مكان لعائلته في الولايات المتحدة تحت سلطة الحكومة الاتحادية.
استطاع نوريس تأمين ثروة صغيرة من الذهب احتفظ بها داخل حفرة في باحة منزله طوال الحرب واصطحب هذه الثروة حين وصل إلى ولاية ساو باولو جنوب البرازيل هو وابنه روبرت في ديسمبر/كانون الأول 1865.
اشترى نوريس الأب والابن ثلاثة عبيد و500 فدان من الأرض قرب مدينة سانتا باربرا دي أويستي. وبحلول شهر أبريل/نيسان من عام 1866، كان جميع أفراد عائلتيهما قد وصلوا إلى البرازيل.
بعد ذلك بدأ ويليام وروبرت حملة لكتابة الخطابات لحث أصدقائهم وجيرانهم السابقين على ترك أمريكا والانضمام إليهم في البرازيل.
وفي ظرف سنوات قليلة، أنشأت أكثر من 6 مستعمرات للكونفيدراليين في ولايات بارا وبارانا وساو باولو.
وبدأ الرائد لانسفورد هاستينغز بنشر أخبار مستعمرات الكونفدراليين.
ونشر كتاباً بعنوان "دليل المهاجر إلى البرازيل" (The Emigrant's Guide to Brazil) عام 1867، وهو كتاب رحلات مثير أطلق وعوداً بتحقيق ثروة لا حصر لها للجنوبيين الذين يتحلون بالشجاعة الكافية لقطع المسافة وصولاً إلى إمبراطورية دوم بيدرو.
أحلام أنصار الكونفيدرالية بإحياء العبودية تفشل
توقف نجاح مستعمرات الجنوبيين في البرازيل على قدرتهم على شراء العبيد واستغلال جهودهم في زراعة الأراضي البرازيلية التي استوطنوها، لكن الحظ لم يحالفهم كثيراً.
فبالرغم من أن أكثر من 40% من ضحايا تجارة العبيد عبر المحيط الأطلسي كانوا متمركزين في حقول قصب السكر الشاسعة في البرازيل، حيث كانت ثمرة عملهم تُحصد لتحلية القهوة والشاي في المنازل والمقاهي في أرجاء أوروبا وأمريكا الشمالية، فإن أعدادهم لم تكن كافية لإعادة أمجاد المهاجرين الجنوبيين في الزراعة والتجارة.
إذ لم يكن أنصار الكونفيدرالية يتحدثون البرتغالية (اللغة الرسمية في البرازيل) بطلاقة، كما لم يعد لديهم ما يكفي من المال لشراء عدد كبير من العبيد، كما أن علاقاتهم في البرازيل كانت محدودة للغاية في ظل العزلة التي اختاروا أن يعيشوا فيها.
كل تلك العوامل ساهمت في فشل الجنوبيين بإعادة إحياء منظومة الزراعة في مزارعهم الشاسعة في البرازيل.
نهاية مستعمرات مؤيدي الكونفيدرالية
في عام 1877، انسحبت القوات الفيدرالية من الولايات الأمريكية الجنوبية، وقد كانت تلك القوى تشكل الحماية الوحيدة التي تمتع بها السود المحررون في الولايات الجنوبية.
ومع خروج السلطات الفيدرالية، بدأ الساسة الجنوبيين باستعادة سلطتهم وبدأت عمليات انتقامهم لما حل بهم من إذلال على يد عبيدهم السابقين، فقد شكل انسحاب القوات الفيدرالية بالنسبة لهم بداية لاستعادة التفوق العرقي في الجنوب.
عندها بدأ المهجّرون الجنوبيون في البرازيل بالتفكير بالعودة إلى ولاياتهم في أمريكا، وقد بدأت مستعمرات مؤيدي الكونفيدرالية بالتفكك شيئاً فشيئاً.
وقد ساهم الإخفاق المالي لزعماء المستعمرات كل على حدة أو موتهم جراء المرض، بزيادة سرعة تفكك هذه المستعمرات وعودة اللاجئين إلى بلدانهم.
ليس من المعروف على وجه التحديد عدد الجنوبيين الذين عادوا من المنفى في السنوات التي تلت ذلك، غير أن المعروف هو أن العديد من المستوطنات السابقة تفككت، وانضم العديد من سكانها إما إلى مستعمرات أخرى أو عادوا إلى الجنوب الذي كان يفتح ذراعه لهم متلهفاً.
وازداد التقارب بين من ظلوا في البرازيل أكثر من أي وقت مضى، وعزموا على حماية تراثهم حتى بعد أن ألغت البرازيل العبودية عام 1888.
تركة الكونفدراليين في البرازيل
رغم أن الكونفدراليين الذين بلغ عددهم بين 10 آلاف و20 ألفاً أخفقوا في بناء جنتهم الكونفيدرالية المنشودة، إلا أنهم تركوا بصمة في البرازيل التي كان لهم دور في مساعدتها على تحقيق الاستقرار، وظلت إسهاماتهم ملموسة لسنوات بعد ذلك في المجالات الزراعية والتكنولوجية وفي المجتمع.
وقد زعم العديد من سلالتهم أن البرازيل كانت ستظل راكدة لولا مساعدتهم، ورغم أن هذا ليس صحيحاً تماماً، فإنهم قد ساعدوا بالفعل في تسريع تبني التقنيات والابتكارات التي كانت تصل إلى شواطئ البرازيل، مثل السكك الحديدية على سبيل المثال.
وربما كانت مستوطنة نوريس "فيلا أميريكانا" ستخفق كغيرها من المستوطنات، لولا وجود أحد أهم خطوط السكك الحديد البرازيلية وأولها بالقرب منها، بما سمح لساكني المستوطنة بتصدير القطن ومساعدة البلاد في أن تصبح واحدةً من رواد العالم في مجال إنتاج المنسوجات.
ولم يلبث حضور الكونفيدراليين أن يتقزم بعد سنوات من وصولهم، بسبب وصول موجات هائلة من المهاجرين من ألمانيا وإيطاليا واليابان، وقد أضاف المهاجرون من هذه الدول إسهاماتهم الخاصة وتركوا بصمات أوضح في جبين البرازيل مع تطورها لتصبح واحدةً من أنجح الدول في أمريكا الجنوبية.
ولكن حتى اليوم، ومع تضاؤل عددهم ولجوء سلالتهم إلى الحديث بالبرتغالية والنظر إلى أنفسهم باعتبارهم برازيليين، يجتمع الكونفيدراليون كل عام للاحتفال بأسلافهم.
ويرتدون أثناء الاحتفالات التنورات المبطنة بأطواق من الداخل، والتي كانت شائعة قبل الحرب الأهلية، والأزياء الكونفيدرالية، ويأكلون الطعام الجنوبي، ويرقصون على أنغام ما قبل الحرب، ويرفعون علم الجنوب المنهزم إجلالاً لواحدةً من أغرب موجات الهجرة التي شهدتها الأمريكتان.