"ولا يستحي مَن يعلم إذا سُئل عما لا يعلم أن يقول الله أعلم". علي بن أبي طالب رضي الله عنه
للتفكير الموضوعي منهجية لا بد من استصحابها دوماً للوصول إلى أقرب المسافات من الحقيقة.
سنتعرض اليوم لأول عوامل هذه المنهجية.
1- اعرف نفسك
لا يخفى على أحد أن القرن العشرين كان قرن الهزائم الكبرى للعرب والمسلمين ابتداءً من سقوط الخلافة العثمانية ثم الاحتلال الفرنسي والبريطاني والإيطالي للكثير من الدول العربية، وما تلا ذلك من تسهيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين ثم قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين وتهجير مئات الآلاف من أهلها في عملية إحلال استيطاني كبرى. ثم وقوع الكثير من الدول العربية تحت حكم العسكر الاستبدادي الوراثي، الذي كان من نتيجته المزيد من الهزائم العسكرية واقتطاع الأراضي لصالح إسرائيل.
كل هذه الهزائم المتتالية أدت إلى تغيرات عميقة الأثر في النفسية العربية، ما أدى إلى انكماشها وخضوعها لسطوة الحاكم المستبد وأجهزته الأمنية التي لم يكن لها وظيفة سوى المزيد من القمع للمواطن العربي بغية تثبيت الزعيم على كرسي الحكم وتوريثه لأولاده من بعده، فيما انكفأ المواطن على نفسه لا همَّ له إلا تأمين حاجاته الأساسية من ماء وغذاء ودواء، فيما يراقب التغيرات الكبيرة التي كانت تتوالى على ساحة الأحداث العالمية، خاصة في العقد الأخير من القرن ابتداءً من انهيار المنظومة الشيوعية وتحرر الشعوب التي كانت ترزح تحت سيطرتها في أوروبا الشرقية، ثم انفتاح وسائل التواصل على بعضها عبر البث التلفزيوني من الأقمار الصناعية (انتشار الأطباق اللاقطة الدش) والهواتف الخليوية فيما عرف بعد ذلك بانتشار العولمة.
هذه التغيرات المتسارعة أدت إلى دقّ ناقوس الخطر عند البعض من المتنفذين في العالم، ففي سبتمبر/أيلول عام 1995 تداعى 500 من هؤلاء إلى مؤتمر استمر ثلاثة أيام عقد في فندق فيرمونت بمدينة سان فرانسيسكو في ولاية كاليفورنيا الأمريكية. وقد فصَّل الصحفيان المخضرمان هانس بيتر مارتن وهارالد شومان ما جرى في هذا المؤتمر في كتابهما القيم "فخ العولمة، العولمة والتعدي على الديمقراطية والازدهار" الصادر عام 1996.
ويمكن تلخيص أعمال هذا المؤتمر بمفهومين بالغي الخطورة: أولهما مجتمع 80:20 ويعني أن هؤلاء المجتمعين استقروا على أنه سيكفي 20% من سكان العالم لإبقاء عجلة الاقتصاد العالمي في حالة دوران، فيما سيبقى 80% من السكان دون عمل!
كيف سنتعامل مع هؤلاء؟ كان هذا هو السؤال الأهم الذي واجهه المجتمعون. لكن الجواب عليه كان في المفهوم الثاني المنبثق عن المؤتمر، والذي أتى به زبيغنيو بردزنسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس جيمي كارتر، في تعبيره الـ tittytainment الذي نحته من كلمتين titty أي حلمة الثدي ويرمز للحليب أو الغذاء، وtainment من كلمة entertainment أي التسلية، ويعني أن أننا يجب أن نوفر الغذاء والتسلية للـ80% الذين لا عمل لهم ليستطيع الـ20% السيطرة عليهم.
وفي السنوات التي تلت هذا المؤتمر حصل انفجار عالمي في وسائل التسلية من مسابقات رياضية يشاهدها ويتابعها مئات الملايين على الهواء مباشرة، إضافة إلى مسابقات غنائية مثل برنامج الصوت "ذا فويس" ومسابقات المواهب مثل Britain's Got Talent بريطانيا وغيرها. أما في أمريكا فقد انتشرت برامج تلفزيون الواقع Reality TV التي تابعها كذلك الملايين يمنّون أنفسهم بالوصول للتصفيات وربح الجوائز الخيالية، ومن ثم الانتقال لعالم الـ20% الذي لم يكونوا يعلمون بوجوده أصلاً.
أما في العالم العربي فكان أن انفجرت إضافة إلى ما سبق دورات التنمية البشرية التي أصبحت أمراً لا بد للشباب من حضوره. أصبح الشاب أو الفتاة يعتقد أنه بحضور دورة من يومين أو ثلاثة واستلام شهادة حضور (دون أي امتحان) فإنه يصبح قادراً على تدريب شباب آخرين في مناحٍ مختلفة من الحياة بعدما أصبح مدرباً معتمداً من هيئات بورد مزعومة.
وهكذا بعد عقود من انكماش الشخصية العربية انتقلت هكذا فجأة وبشكل انفجاري إلى شخصية تظن أنه لا حدود لها وأنها قادرة على أي شيء وكل شيء.
هذا التغير الذي طرأ على النفسية العربية أصبح عائقاً كبيراً أمام معرفة الذات، هذه المعرفة التي تعتبر حجر الأساس للتفكير الموضوعي. إذ لا يمكن لمن ليس لديه فكرة صادقة عن إمكاناته الحقيقية والعوائق التي تمنع من تطورها أن يخطط لأي أمر، وإن خطط فإن هذا التخطيط سيكون مؤسساً على معلومات مغلوطة ستؤدي إلى انهيار كبير حين مجابهة أول صعوبة حقيقية.
إضافة لذلك فإن هذا الانتقال المفاجئ أدى إلى تشكيل شخصية نارية غاضبة علامتها رد الفعل بدلاً من الفعل.
لا يعني كلامنا هنا أننا ندعو إلى البقاء مكبلين بما اختطه لنا الآخرون، لكنه يعني أن نعمد إلى معرفة ذواتنا وإمكاناتنا على الشكل الحقيقي دون مبالغة أو تبخيس. لأنه إذا علمنا نواقصنا كنا أقدر على علاجها. أما إذا غضضنا الطرف عنها وكأنها لم تكن، كنا كالذي يتجاهل وجود أعراض مرض لديه يظن أنه بهذا التجاهل يطرد المرض ولا يعلم أنه إنما يقوي من المرض إلى الدرجة التي قد يصبح معها مستعصياً على العلاج.
رغم وجود أمثلة كثيرة من علماء غربيين تدلّ على معرفتهم لحدود علمهم، فإن السمة الأساسية للحضارة الغربية هي عدم معرفة حدودها.
فهذه المعرفة للحدود من عدمها تشكّل اختلافاً أساسياً بين الحضارتين الغربية والإسلامية. فحيث إن الحضارة الغربية تعمل في فضاء من اللامحدودية، فإن الحضارة الإسلامية ترى نفسها محدودة ضمن محددات أخلاقية لا تستطيع تجاوزها.
وقد رأينا ذلك في جريان الولايات المتحدة الأمريكية وراء سراب القوة ففتحت على نفسها حربين في آن واحد في أفغانستان والعراق، فخسرت الحربين في 10 سنين وخسرت تريليونات الدولارات التي أدت إلى تراجع كبير في مكانتها الدولية كقوة عظمى وحيدة عقب سقوط القوة الأخرى الاتحاد السوفييتي والذي سقط لنفس السبب من الظن باللامحدودية، فتمدد في أرجاء المعمورة حتى قصمت قشة المجاهدين الأفغان ظهره بتسليح نوعي بسيط مدّتهم به الولايات المتحدة.
كما سنرى في المقالات اللاحقة فإن فهم حدود الذات لا يستطيعه إلا نوعية خاصة من أفراد المجتمع والذين سيكون لهم دور وشأن حين نشوء الأزمات الكبرى. هؤلاء القادة تقع على عواتقهم مواجهة باقي أفراد المجتمع لتوصيف الحقيقة، كما هي دون إضافة أي ملونات أو مغيرات للطعم أو كما يقال دون رشّ السكرعلى الموت لمحاولة تغيير طبيعته.
هذه الوظيفة المنوطة بهذه النخبة من مواجهة الناس وفتح أعينهم على الواقع لا تقل خطورة عن مواجهة الطغاة وردعهم عن الاستبداد وسفك الدماء.
إن القرآن الكريم مليء بالآيات التي تحضّ على التفكر والتعلم. ولا يتأتى هذا إلا بعد معرفة عميقة صادقة من المرء لنفسه عما تعلم وما لا تعلم.
إن معرفة حدود الذات هي باختصار شهادة على النفس أمام النفس. فمن شهد على نفسه بالحق استطاع تزكية نفسه واستدراك وإصلاح مواطن الخلل فيها.
أما من شهد على نفسه زوراً فسيبقى متأخراً، ولو ظن أنه لا يحده شيء في الأرض ولا في السماوات. وسيتحول تدريجياً من حيث يدري أو لا يدري إلى مفسد في الأرض.
رُوي في الأثر: اجتمع يوماً أهل الأندلس وقرروا إرسال أحد علمائهم "بَقِيّ بن مخلد" إلى المدينة المنورة وقد جهّزوا 42 مسألة ليطرحوها على إمام المدينة وعالمها الإمام مالك بن أنس (رحمه الله) ويحصلوا منه على أجوبة عليها.
طرح بَقِيّ بن مخلد الأسئلة على الإمام مالك فأجاب عن 18 مسألة وقال عن الباقي: "لا أعلم".
تحرّج بَقِيّ بن مخلد وقال للإمام: بماذا أجيب أهل الأندلس عن باقي المسائل؟
فأجابه الإمام مالك: الأمر بسيط. قل لهم سألت الإمام مالك بن أنس عن 42 مسألة، فأجاب عن 18 مسألة وقال عن الباقي: "لا أعلم".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.