لا يمكن أن نفصل الوجود (الأنطولوجيا) عن المعرفة (الإبستمولوجيا)، وهذا أمر معروف ومتفق عليه بين الفلاسفة، ولكن الاختلافات التي تظهر بينهم، تدور حول أربعة أسئلة رئيسية:
. كيف تحدث معرفة الوجود؟
. هل المعرفة هي علة الوجود أم العكس؟
. هل المعرفة أسبق أم الوجود؟
. هل يمكن للمعرفة أن تشمل الوجود؟
بالطبع لن أتحدث هنا عن الاختلافات بين الفلاسفة حول هذا الأمر، بل سأقتصر على توضيح الفرق بين الخرافة التي تتعلق بكيفية حدوث معرفة الوجود، والإيمان الذي يتعلق بإمكانية أن تشمل المعرفة الوجود.
الإيمان هو تصريح بأنه لا يمكن للمعرفة أن تشمل الوجود، لأن هناك حدوداً معينة للعقل البشري، الذي لا يمكنه أن يتخطى العالم المحسوس والمجردات المنبثقة عنه.
فإن اخترنا الإيمان الديني الذي يجعل العالم المحسوس مجرد جزء من عالم أكبر يقع أغلبه فيما بعد هذا الوجود، والذي لا يمكن للإنسان أن يصله إلا فيما بعد الموت، ستتضح لنا هذه الفكرة جيداً.
الدين الإسلامي مثلاً يفرّق بين عالم الشهادة، أي الذي يعتمد على المشاهدة والملاحظة، وعالم الغيب الذي يعني عكس العالم الحاضر أمامنا. وهنا قوة لغوية لا يلاحظها أغلبنا.. إذ لماذا لم يرد في القرآن الكريم لفظة معاكسة لكلمة الشهادة، مثل "العالم المحجوب" أو غيرها؟
الجواب هو أن الغيب يوجد جزء منه في عالم الشهادة، فالمستقبل هو جزء من الغيب، لكن يمكن أن يوجد كحاضر في عالم الشهادة بمرور الزمن. أما المحجوب، فهو الذي يحجبه "البرزخ" عن عالم الشهادة، كعالم الجن مثلاً.
كما أن القرآن يفرق بين ثلاثة أنواع من المعرفة:
1- علم اليقين (العقلي)
2- عين اليقين (الملاحظة)
3- حق اليقين (الإيمان)
لن أتعمق في تفصيل هذه الأنواع، لكن أريد فقط توضيح أن الإيمان دائماً مرتبط بعالم الغيب. حتى الأمل الذي يعقده الإنسان المادي في مستقبل أفضل هو إيمان بعالم الغيب، وإن كان فقط إيمان بجزء فقط من الغيب الذي يقع في عالم الشهادة. ولولا خوفي من إطالة الموضوع لشرحت ثنائية أرسطو "الفعل والقوة" وثنائيته الوجودية "الوجود والعدم" لنقارن بينها وبين هذا الطرح. وعندها كنا لنلاحظ أن هناك نقطة التقاء مهمة بين الطرح الإسلامي والطرح الأرسطي، وهي فكرة أن العالم لا يمكن أن يكون ممتلئاً، بل لابد من وجود عالم فوقي يسمح بالحركة والصيرورة، والفيلسوف الألماني الشهير فريدريك هيغل اعتمد على هذه المسلمة لتطبيق جدليته على روح العالم.
إذاً، الإيمان موجود لدى المتدين والملحد، لكن المتدين يجعل عالم الغيب أكبر من عالم الشهادة، بينما يضع الملحد عالم الغيب في الزمان الأرضي فقط، أي يجعله جزء من هذا العالم.
فلا يمكن أن تخلو الحياة من الإيمان، وإن كان اسم الإيمان المادي المتعلق بالزمان الأرضي يسمى أملاً، بينما الإيمان الروحي الذي يتجاوز العالم الأرضي يسمى "ثقة بالله".
لهذا لا يمكن أن نعتبر أن إيمان الملحد في حياة أفضل خرافة، لأنه يؤمن بأمور ليست ملموسة. إن الإيمان بإقامة المدن الفاضلة ليست خرافة، بل هي إيمان وإمكانية في عالم الشهادة، وإن كانت الآن توجد في عالم الغيب.
ما الخرافة إذاً؟
الخرافة، كما قلت تتعلق بالسؤال: كيف تحدث معرفة الوجود؟ أي كيف يمكن أن نفسر ظواهر الوجود حتى يتسنى لنا فهمها؟
كما أشرت، إن الإيمان يقسم الوجود إلى عالم الشهادة وعالم الغيب، لهذا سنقتصر الإشارة هنا بالوجود إلى عالم الشهادة.
فحين يقوم شخص ما بتفسير ظاهرة أمامه، بإيمانه، فهذه خرافة؛ لأنه لا يستطيع أن يقدم دليلاً عن ذلك. فالخرافة في اللغة العربية هو الكلام المقبول والمليء بالكذب. وفي المنطق الصوري، يتحدد كذب وصدق القضية بـ"الحكم" عليها. وحين تحاول تقديم قضية ما تتضمن تفسيراً لحدث ما، فإنك تحاول أن تقنع الطرف الآخر بصدق ما تقول، فما السبيل لذلك؟
السبيل هو تقديم الأدلة داخل عالم الشهادة التي يمكن أن يستشعرها الآخر، بعقله أو بالملاحظة، لهذا لا يمكن أن تُفسر وقوع حدث ما، بسبب قوة خارجية، لأنك أولاً، لم تر ذلك (لكنك تؤمن بهذا، وهذا حق مشروع). لكن حين تريد أن تُفسِّر ذاك الحدث أو تلك الظاهرة بالإيمان فإنك تُصرِح بخرافة، سيقبلها من يؤمن مثلك بتلك القوة، ويكذبها من لا يؤمن بذلك.
إذاً الخرافة هي قصة تفسيرية لحدث في العالم يستسيغها مَن يشاركك ذات الإيمان، ويكذبها مَن يختلف معك.
ولا يعني هذا أن الخرافة ستخطئ التسديد، بل العكس، يمكنها أن تُصيب في تحديد علة حدث ما، لكنها ستظل ضعيفة في تفسيرها "لأنها دوغمائية"، أي ذاتية لا تتعلق بالموضوعية التي يتفق عليها البشر.
مثلاً، يمكنك أن تدعي مشاهدتك لجِنّي وهو يقتل رجلاً في قلب المدينة، لكن قصتك ستظل خرافة إن قمت بحكيها، لأن لا أحد يستطيع أن يتأكد مما تقوله، فتفسيرك ذاتي، وليس موضوعياً.
لكن لو قلت إن الرجل قد قتل على يد الماسونية العالمية، فهذا احتمال يمكن التحقق منه. لكنه أقرب إلى الخرافة، إن لم تقدم دليلاً على ذلك، أما إن قلت إن الرجل قد مات برصاصة أصابته في جسده، فتفسيرك علمي، لأنك تملك دليلاً قطعياً على ذلك يمكن أن تقدمه لأي شخص.
وهذا هو الفرق بين الذاتية والموضوعية، أي أن الذاتية تتعلق بما تقوله "أنت" أو "أنا" حول قضية ما ونعتقد في صحتها. ويمكن لذوات أخرى ألا تصدق صحتها، لأنه لا يمكن لشخص ما أن يدخل إلى ذات شخص آخر ليكتشف إن كان يكذب أم لا. أما الموضوعية، فهي الحديث عن قضية بأدلة وشواهد خارجية لا تنطلق من ذواتنا، بل من موضوع خارجي، من عالم الشهادة، ويمكن لأي شخص أن يتأكد من صحتها بالعقل أو بالملاحظة.
إذاً الخرافة لا تتعلق بحدوث الظاهرة، وإنما تتعلق بتفسير حدوثها، ولا تتحدث بالموضوعية وإنما بالذاتية. ولا يمكن للإنسان أن يتحقق منها، أي ليست بقابلة للتكذيب أو الدحض.
العلم لا يتقاطع مع الإيمان، لأنه إن قام بنفي وجود في عالم الغيب، فهو بذلك يمارس القطعية، وهو لا يملك دليلاً على ذلك، سوى تبرير عقلي، يقدم المؤمن ضده أيضاً تبريراً عقلياً. وإن بتخطي العلم عالم الشهادة، مارس بذلك الخرافة، كخرافة الأكوان المتوازية. إن العلم هو مجال لتفسير الأحداث بموضوعية داخل عالم الشهادة والغيب الأرضي المتعلق به، أما الخرافة فهي تفسير الأحداث بقوى غيبية سواء من طرف الملحد أو المؤمن.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.