الانتفاضات بعد الجوائح ليست جديدة.. مشاهد من ثورة الفلاحين في إنجلترا بعدما خطف الطاعون أرواح ثلث سكان أوروبا

رغم أننا في خضم جائحة كورونا التي أجبرت الملايين على ملازمة منازلهم لأسابيع وأشهر، فإن التظاهرات ضد العنصرية تعمّ أرجاء أمريكا وبعض المدن الأوروبية. قد يبدو الأمر غريباً في البداية، لكن على مدار التاريخ يبدو أن هناك علاقة تأثير وتأثر ما تخبرنا بأن الانتفاضات بعد الجوائح ليست جديدة من نوعها.

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2020/06/13 الساعة 10:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/06/13 الساعة 10:23 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية عن ثورة الفلاحين في إنجلترا - iStock

رغم أننا في خضم جائحة كورونا التي أجبرت الملايين على ملازمة منازلهم لأسابيع وأشهر، فإن التظاهرات ضد العنصرية تعمّ أرجاء أمريكا وبعض المدن الأوروبية. قد يبدو الأمر غريباً في البداية، لكن على مدار التاريخ يبدو أن هناك علاقة تأثير وتأثر ما تخبرنا بأن الانتفاضات بعد الجوائح ليست جديدة من نوعها.

فإذا عدنا بالتاريخ إلى العصور الوسطى، نجد أن انتشار الطاعون أسهم بشكل مباشر في قيام ثورة الفلاحين الإنجليز عام 1381. كيف ذلك؟ وما العلاقة المباشرة بين الطاعون والانتفاضة الشعبية؟ هذا ما حاولت أستاذة التاريخ في كلية ولاية كين، سوزان ويد، تفسيره في مقال على موقع The Conversation الأمريكي باستعراض أوجه التشابه بين الانتفاضة الحالية في أمريكا وانتفاضة القرن الـ 14.

ما حيلة الفئة الأضعف والأكثر تأثراً بالأزمات؟ الانفجار

أثار مقتل المواطن الأمريكي من أصول إفريقية جورج فلويد على يد ضابط شرطة، احتجاجات أججها مزيج من قسوة ممارسات الشرطة والجائحة التي تسببت في فقدان ملايين الوظائف، وقرون من التمييز والعنصرية وعدم التكافؤ الاقتصادي.

قد تبدو إنجلترا العصور الوسطى بعيدة كل البعد عن أمريكا المعاصرة. ولا شك أن العمال الأمريكيين غير مرتبطين بأرباب أعمالهم بالقيود الإقطاعية، التي كانت تعني أن الفلاحين مُرغمين على العمل لصالح ملاك الأراضي. إلا أن ثورة الفلاحين كانت أيضاً رد فعل جاء بعد قرون من القمع لأدنى طبقات المجتمع.

ومثلما هو الحال الآن، كانت غالبية الثروة في أيدي طبقة الصفوة التي تألفت من حوالي 1% فقط من السكان. وعندما بدأ مرض قاتل في الانتشار، طُلب من الفئة الأضعف والأشد عجزاً أن تحمل الفئة الأكثر رخاءً، بينما يواصلون مواجهة الصعوبات الاقتصادية. ويرفض قادة الدولة الاستماع. ثم قرر الفلاحون في نهاية المطاف أن يقاوموا. 

لحظة إدراك قيمتهم قابلها الملك بتعالٍ

تُعبر الخطابات والمقالات الباقية من ذلك الوقت عن مشاعر الخوف والأسى والفقد؛ إذ كانت أعداد الوفيات بسبب الطاعون الذي انتشر في القرن الـ 14 كارثية، ويُقدر أن ما بين ثلث ونصف سكان أوروبا قد لقوا حتفهم خلال موجة الانتشار الأولى. 

وقد خلقت هذه الوفيات الضخمة عجزاً شديداً في العمالة. وتصف سجلات إنجلترا حقولاً قاحلة وقرى خالية وماشية مُهملة تجوب المناطق الريفية الخالية.

عندها أدرك العمال الإنجليز الذين نجوا قيمتهم الجديدة وبدأوا في ممارسة الضغط للحصول على أجور أعلى. بل إن بعض الفلاحين بدأوا في البحث عن عمل أكثر ربحاً من خلال ترك الحيازة الإقطاعية، بمعنى أن الفلاحين شعروا بالحرية في ترك أسيادهم ملاك الأراضي.

وبدلاً من الاستجابة لمطالب الفلاحين، قام الملك إدوراد الثالث بعكس ذلك، إذ إنه في عام 1349 جمّد الأجور عند مستوى ما قبل الطاعون واعتقل أي حاصد أو قاطع عشب أو أي عامل آخر ترك سيّده دون سبب. وقد ضمنت تلك القوانين أن تحافظ النخبة من ملاك الأراضي على ثروتها.

هدفت قوانين إدوارد الثالث المتتالية إلى ضمان ألا يزيد العمال قدرتهم على الكسب. وبينما نجت إنجلترا من موجات متعاقبة من الطاعون، وفي ظل استمرار العجز في العمالة، بدأ العمال يحدثون ضجة مطالبين بالتغيير.

ثم فاض الكيل مع استمرار الضغط

كان السبب الظاهري لثورة الفلاحين هو الإعلان عن فرض ضريبة رؤوس ثالثة خلال 15 عاماً. ولأن ضرائب الرؤوس ضرائب ثابتة تُفرض على جميع الأفراد، فقد أثرت في الفقراء أكثر من الأثرياء بكثير. ولكن على غرار الاحتجاجات التي اندلعت عقب مقتل فلويد، كانت ثورة الفلاحين في الواقع نتيجة للتوقعات التي تلاشت والتوترات الطبقية التي تأججت على مدار أكثر من 30 عاماً. 

وصلت الأمور في النهاية إلى ذروتها في يونيو/حزيران 1381 بعدما اقتحم 30 ألف عامل ريفي -حسب تقديرات العصور الوسطى- لندن طالبين رؤية الملك. وقد قاد هذا الفوج أحد صغار الملاك السابقين، وات تايلر، وقس يدعى جون بول. 

كان بول متعاطفاً مع أتباع حركة Lollard، وهم طائفة مسيحية اعتبرهم الرومان مهرطقون. آمن أتباع هذه الحركة بكشف الأسرار المقدسة وبترجمة الإنجيل من اللاتينية إلى الإنجليزية، الأمر الذي سيجعل فهم الكتاب المقدس متيسراً للجميع، ويقلل من دور رجال الدين في تفسيره.  وأراد بول تطبيق أفكار حركة Lollard في أنحاء المجتمع الإنجليزي كله. أي أنه باختصار، دعا إلى قلب النظام الطبقي بالكامل. وكان يُبشر بأنه طالما البشر كلهم أبناء آدم وحواء، لا يمكن لطبقة النبلاء أن تثبت أنهم أعلى مكانة من الفلاحين الذين يعملون لديهم.

وبمساعدة العمال المتعاطفين في لندن، استطاع الفلاحون الدخول إلى المدينة وهاجموا قصر سافوي، وكان مالكه هو دوق لانكستر، وأضرموا النار فيه. ثم توجهوا بعد ذلك إلى برج لندن، حيث قتلوا العديد من رجال الدين البارزين، بمن فيهم كبير أساقفة كانتربيري.

طعم الملك لتهدئة الفلاحين، في الحقيقة كان مصيدة 

لإخماد العنف، التقى خليفة إدوارد، ريتشارد الثاني، الذي كان في الـ 14 من عمره، بالفلاحين الغاضبين على أطراف لندن. وقدم لهم ميثاقاً مختوماً يُعلن جميع الرجال وأبنائهم "أحراراً"، ما عنى أن القيود الإقطاعية التي ألزمتهم بخدمة ملاك الأراضي قد رُفعت.

وبينما شعر المتمردون بالرضا بهذا الميثاق في بداية الأمر، لم تنتهِ الأمور بخير بالنسبة لهم كما تروي سوزان ويد في مقالها. إذ عندما اجتمعت المجموعة مع ريتشارد في اليوم التالي، قُتل وات تايلر -سواء بالخطأ أو عمداً- على يد واحد من رجال ريتشارد، هو جون ستانديش. وتفرق بقية الفلاحون أو هربوا، وذلك وفقاً لتقرير مؤرخ العصور الوسطى. 

أما بالنسبة للسلطات، فكانت هذه فرصتهم للانقضاض. فأرسلوا قضاة إلى بلدة كنت ليعثروا على المذنبين الذين قادوا تلك الانتفاضة ويعاقبوهم، ويعدموهم في بعض الحالات. وقد ألقوا القبض على جون بول وجرى سحله وشنقه. 

ثم في 29 سبتمبر/أيلول 1381، أعلن ريتشارد الثاني والبرلمان أن الميثاق الذي يحرر الفلاحين من قيودهم الإقطاعية لاغٍ وباطل. واستمرت الفجوة الضخمة في الثروة بين أدنى طبقات المجتمع وأعلاها. 

لنربط الخيوط ببعضها.. بين أمريكا وإنجلترا

"لا شك أن العمال الأمريكيين من ذوي الأجور المنخفضة لهم حقوق وحريات افتقر إليها فلاحو العصور الوسطى. إلا أن هؤلاء العمال غالباً ما يكون سبب ارتباطهم بوظائفهم هو عدم قدرتهم على تحمل أي خسارة ولو قليلة في الدخل"، أو هكذا تربط سوزان ويد العلاقة التاريخية بين ثورة أمريكا وثورة الفلاحين في إنجلترا.

إذ ترى أن المنفعة الضئيلة التي حصل عليها بعض العمال الأساسيين خلال الجائحة تُسلب منهم بالفعل. فقد أوقفت شركة Amazon منح الدولارين الإضافيين لكل ساعة، اللذين دفعتهما إلى العمال كبدل مخاطر، كما أعلنت خططها لفصل العمال الذين يحجمون عن العودة إلى العمل خوفاً من الإصابة بكوفيد-19. وفي هذه الأثناء، ما بين منتصف مارس/آذار ومنتصف مايو/أيار، أضاف جيف بيزوس، الرئيس التنفيذي للشركة 34.6 مليار دولار إلى ثروته.  

يبدو أن الفوارق الاقتصادية في رأس مالية القرن الـ 21 -حيث الطبقة الأكثر ثراء تملك الآن أكثر من نصف ثروة العالم- تبدأ في مشابهة تلك التي سادت في أوروبا القرن الـ 14. فالأغنياء يزدادون غنى أما الفقراء فيزدادون فقراً.

ثم تنهي أستاذة التاريخ مقالها بالقول: "عندما تصير اللامساواة في الدخل منفرة للغاية، وعندما تكون تلك اللامساواة مبنية على قمع طويل المدى، فربما يكون هذا النوع من الاضطرابات التي نشهدها في الشوارع في عام 2020 حتمياً".

تحميل المزيد