لا تنفصل العملية الإبداعية عن نزعة التمرد، ويضيفُ الإبداع بأشكاله المتنوعة أبعاداً جديدة إلى الحياة، بحيث لا يكون المرءُ مقيداً بما يعيشهُ ويشاهده فقط، إنما يتمكنُ من تحويل ما اختبره في معترك الحياة إلى مادة أو كلمات أو أحرف في تَشكُّل ما يوازي التجربة الحياتية. وهذا يعني أنَّ الإبداع محاولة الامتداد خارج محدودية الزمن وضيق المكان، وإيجاد المعنى في المسافة الفاصلة بين مجهولين، فإذا كان الموتُ استحالة لإمكانية أخرى على حد قول الفيلسوف الألماني هايدغر فإنَّ الإبداع يوفرُ فرصةً لمضاعفة الإدراك والافتراض ضمن إمكانية الحياة، ولو ظلت محدودة بعوامل بيولوجية فإنَّ ما يتحركُ في اللاوعي لا يمكن التعبير عنه أو نقله سوى من خلال الفنون الإبداعية.
هنا يعطينا الفيلسوف الألماني الآخر شوبنهاور الأفضلية للموسيقى التي تتفوق على اللغة من حيث القدرة على الانطلاق بالمخيلة نحو مدى أوسع وأكثر رحابة. أي أن الموسيقى لديها قدرة ونطاق أوسع للمخيلة والإبداع أكثر من اللغة وقواعدها.
التمرد هنا هو محاربة حدود الزمن وضيق المكان، والانتقال إلى فسحة الخيال وإطلاق العنان. ولا إبداع دون تمرد من هذا النوع، لأن غير ذلك يعني الفعل في حدود الزمان والمكان، أي في الإطار المجتمعي الراسخ أصلاً، فينتهي المطاف بتكرار المحفوظ ونسخ الموجود منذ القدم.
هذا عن علاقة الإبداع بالتمرد عموماً.. كيف يتمظهر فعل التمرد في الفن الروائي بالتحديد؟
طبعاً تتمُ مساءلة الواقع واستشراف المستقبل من خلال هذا الفن أكثر من أي فن آخر. إنَّ ما تتيحهُ الرواية من مجال للمناورة في توظيف الأساطير والتاريخ والرموز يكونُ أداةً لمناوشة المتواضع عليه اجتماعياً وسياسياً ودينياً، بالتالي يتأسسُ وعي مفارق لما هو سائد، كما ينزعُ النص الروائي إلى تفكيك الظواهر المهينة في المجتمع، ويتبدَّى هذا الملمح في الروايات التي تعتمدُ على بنية سجالية، إذ يكون القارئ أمام نقاشٍ بشأنِ محددات الوعي الجمعي وتقنية السيطرة على المخيال بوصفه حالة رغبة جامحة لا تعرف موضوعها. إنها تريد كل شيء في الحال، وبشكل مباشر لا يقبل التأجيل، كما يقول "سعيد بنكراد" من هنا نفهمُ لماذا تعدُّ الروايةُ مثيرةً للريبة أكثر من أي جنس أدبي آخر، إذ تتراخى في فضائها ما يسميه سعد محمد رحيم بأنطقة المحرم. والحال هذه فقد أصبحت الروايةُ منصةً للتيارات الفلسفية وإرهاصاً بنشوء المشاريع الفكرية، الأمر الذي قد تراه بالوضوح في المذاهب العبثية.
بوادر الانعتاق
تسبقُ ظهور أي مذهب فلسفي جديد عدة مؤشرات تنبئُ بتحولات على مستوى الواقع والفكر، وهذا الموقفُ ينسحبُ على ما يشهدهُ الأدب أيضاً من التطور على صعيد التعامل مع معطيات حياتية، فمن المعلوم أنَّ التيار الوجودي كان احتجاجاً على ضمور القيم الإنسانية والشعور بالإحباط من الالتفاف على مبدأ الحرية، إذ يربطُ سارتر بين المسؤولية ومفهوم الحرية، ولولا ذلك الترابط بين حالتين لاستحال تحمل الكائن البشري لمسؤولية أفعاله. فهذا هو أساس المذهب الوجودي كما يمثلهُ سارتر، فالإنسان بالنسبة لأصحاب "الأبواب المقفلة" لا شيء سوى العمل. وما يفرق بين التشاؤم لدى شخصيات سارتر الروائية والشخصيات المتحركة في روايات إميل زولا على سبيل المثال أنَّ الأخير يفسر أسباب الخمول والضعف وفقاً للعوامل البيولوجية. وهذا ما يرتاحُ إليه القارئ، بينما لا يكونُ الخمولُ والتشاؤم لدى سارتر سوى اختيار فردي، وهو يقول في "الوجودية منزع إنساني"، إن مذهبه يسببُ الذعر لعدد من الناس، لأن هؤلاء الأشخاص ليس لديهم إلا طريقة واحدة لتحمل بؤسهم، وهي أنّ الظروف كانت ضدهم، وما أنصفت جدارتهم.
وإذا تحوّلنا إلى متابعة الشخصية الرئيسية في رواية "الغثيان"، وهي باكورة الأعمال الروائية لسارتر لا يشقُّ عليك تفهُّم ما يرمي إليه المؤلف، من التعبير عن موقف فلسفي من خلال أقوال وتصرفات "روكنتان"، إذ تستشفُّ من محتويات الرواية بوادرَ مشروع سارتر الفلسفية، ناهيك عن تحرُّك ظلال بعض الاتجاهات الفلسفية السائدة آنذاك على سلوكيات "روكنتان"، الذي يتكفل بسرد الرواية وتسجيل انطباعاته حول وقائع أيامه. ومما يردُ على لسان البطل الضد يفصح عن هموم وجودية فهو يقولُ: "كم أودُّ لو أتبصر في ذاتي بالوضوح الكافي قبل أن يفوت الأوان". فتلمسُ شكاً ديكارتياً.
إضافة إلى رنين آراء هاديغر بشأنِ نسيان الكينونة والوجود في هذا العالم، ومن ثمَّ يتم التأكيد على دور العمل في تشكيل هوية الذات، يخاطبُ العصامي صديقه لافتاً نظره إلى ما تحمله الأفعال من الأهمية "إن في أتفه أفعالك قدراً هائلاً من البطولة".
أكثر من ذلك، فإنَّ المسؤولية الأصعب تكمنُ في أن يكون المرءُ إنساناً بنظر سارتر، ويوافقهُ غريمه كامو في هذا الرأي، ولا تغيبُ فكرة الانتحار بوصفها خياراً قائماً لدى شخصيات سارتر، غير أن ما يُمسكُ العصامي من المضي نحو الانتحار هو التفكير بألّا يتأثر أحد بموته، بل يكونُ في موته أشدَّ وحدةً مما كان عليه بالحياة. إذاً فإن الارتماء إلى العمل هو ما يعطي للحياة قيمةً برأي سارتر، أما عن علاقة الإنسان بما يقعُ عليه نظره من الأشياء فلا وجودَ لشيء خارج المظاهر.
وما يجدر بالذكر هنا أنَّ جان بول سارتر يشيرُ إلى صراع الإنسان مع الزمن في سياق روايته، ويوحي ما يقوله بهذا الشأن أنَّ الزمن لا يمتلئ، وكل ما يغمسُ فيه يميعُ ويتمطى حسب تعبير روكنتان.
ضد الزيف
تنزلُ رواية "الحارس في حقل الشوفان" للكاتب الأمريكي ج.د.سالنجر ضمن الأعمال الأدبية التي تعبرُ عن السخط، بل هي بلاغ ضد الزيف، كما أنَّ روكنتان ما انفك يشعر بالغثيان، كذلك حال هوفمان في رواية سالنجر، حيثُ يثورُ على زيف عالمه ويهربُ من المدرسة، رافضاً نفاق القائمين عليها، كما لا يقبلُ التدجين في النظام الأسري، يفكرُ في حياة جديدة مع سالي، التي لا ترى فيما تسمعهُ منه سوى رومانسية المراهق. وما يضاعفُ من غضب هوفمان البالغ من العمر ستة عشر عاماً هو الاضطرار للنطق بما يخالفُ حقيقة المشاعر، وكان الانتحار يراوده في لحظة ما، غير أنَّ ما منعه من الإقدام عليه هو عدم التأكد من وجود شخصٍ يغطي جثته، وهو لا يريدُ أن يكون مكشوفاً أمام الأنظار. يتقاطعُ روكنتان مع هوفمان في الشعور بالسأم والتغرب عن الواقع، والاستخفاف بالمتوافق عليه اجتماعياً، والتوتر في العلاقة مع المرأة؛ إذ يميلُ الاثنان إلى تخيل المرأة التي تعيشُ حياتها الحميمية مع شخصٍ آخر.
يشار إلى أن السردَّ في رواية سالنجر يتصفُ بالعفوية؛ إذ يستجلي الكاتبُ ما يعترمُ في أعماق جيل جديد من الغضب والرغبة في الثورة على الزيف، يذكر أنَّ هذه الرواية حسب ما يقوله الكاتب العراقي "علي حسين" قد أثارت لغطاً كبيراً في الأوساط الأكاديمية بأمريكا. واللافتُ في أجواء هذا العمل الروائي هو تحرُّر معجمه اللغوي من غطاء الاستعارة والكناية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.