مَن منا لا يحب المثلجات؟ ومن منا لا يتمتع بتناولها خصوصاً في فصل الصيف الحار؟
لكن، بينما تتناول البوظة بالنكهة المفضلة لديك، هل سألت نفسك يوماً: مَن الذي أوجد هذا الاختراع العظيم؟
قد تفاجئكم معرفة أن المثلجات كانت موجودة منذ آلاف السنين، وأنها اختراع لم يرتبط بوجود البرادات والثلاجات الحديثة كما يعتقد بعضنا.
كيف؟ إليكم القصة كاملة حسب ما وردت في مجلة History Today البريطانية:
تاريخ المثلجات.. البداية عند الإغريق
منذ القرن الخامس قبل الميلاد، كان الإغريق القدماء ينعشون أنفسهم بالثلج المنكّه بالعسل أو الفواكه.
ورغم أن أبُقراط -الطبيب الإغريقي الشهير- قد حذر من تناول المثلجات لأنها غير صحية ونصح مرضاه بالابتعاد عن المشروبات الباردة عموماً (التي اعتقد أنها تسبب "تقلبات المعدة")، فإن هذه الحلوى الثلجية تمتعت بشعبية هائلة في كافة أنحاء بحر إيجه.
حتى أن الإسكندر الكبير نفسه كان من عشاق المثلجات، خصوصاً أن الإغريق كانوا يتفننون في صنعها، فإلى جانب المثلجات المحلاة بالعسل والفواكه، ابتدع الإغريق ما يسمى "الفالوده"، وهي حلوى مصنوعة من الثلج بنكهة ماء الورد والشعيرية.
لم تتوقف شعبية المثلجات عند الإغريق فقط، بل حاز هذا الاختراع إعجاب الرومان كذلك، الذين بدأوا هم أيضاً بتصنيع المثلجات.
وفي حين انتقد الفيلسوف الروماني لوكيوس سينيكا نيرون لأنه كان ينقل الجليد من الجبال لمجرد تبريد حمام السباحة الخاص به، إلا أنه لم يجد ضيراً من نقل هذا الجليد لصنع المثلجات المحلاة بالعسل والنبيذ.
غرف حجرية لحفظ المثلجات
بالرغم من أن المثلجات كانت شائعة حتى قبل التطور التكنولوجي، فإن تناولها كان يقتصر فقط على فصل الشتاء.
أما تناول المثلجات في فصل الصيف الحار فنحن بحاجة لإيجاد طريقة لنقل الجليد من أعالي الجبال وتخزينه، الأمر الذي وضع عشاق المثلجات أمام معضلة تقنية.
حب المثلجات جعل أجدادنا يفكرون بطريقة لحفظها في الفصول الدافئة، فبنوا نوعاً خاصاً من المباني تحت الأرض، وعزلوها بشكل جيد باستخدام القش، وكانت عبارة عن غرف حجرية باردة بما يكفي لحفظ الجليد الذي يتم قطعه من البحيرات والأنهار المجمدة في الشتاء، أو الثلج الذي يهطل من الجبال.
وبالرغم من معرفتنا بوجود غرف التبريد تلك، فإننا لا ندري تحديداً متى ظهرت.
وتذهب بعض الآراء إلى أن البابليين ربما بنوا حفراً جليدية بدائية في وقت مبكر من الألفية الثانية قبل الميلاد، وهناك بعض الأدلة التي تشير إلى هذا، وبعد ذلك بكثير، كان لدى الإسكندر الأكبر كذلك مخازن للثلج.
لكن مما لا شك فيه أن المخازن كانت مستخدمة بانتظام في روما القديمة؛ وسهل انتشارها المتزايد تطوير تجارة الثلج المزدهرة في وقت قصير، وذلك عبر أوروبا والشرق الأدنى والبحر الأبيض المتوسط. وبحلول العصور الوسطى اللاحقة، كان الثلج معروضاً للبيع في معظم الموانئ الكبيرة.
المثلجات كما نعرفها اليوم
مع ذلك، فإن المثلجات -المصنوعة من منتجات الألبان المجمدة، بدلاً من الثلج أو الجليد- لم تظهر حتى وقت متأخر.
واختراعها لم يكن ناتجاً بكل الأحوال عن محاولات لصنع نوع جديد من المثلجات.
فخلال عهد أسرة تانغ (618-907 م)، على سبيل المثال، صنع الصينيون مادة سميكة دسمة وباردة وذلك بتعبئة حليب الجاموس والدقيق والكافور داخل الجليد.
ولكن بينما كان من السهل تبريد الحليب، فقد ثبت أنه من الصعب جداً تجميده.
كان الأمر كله متعلقاً بالفيزياء، وكما نعلم الآن، يتجمد أغلب حليب الأبقار بين درجتي -0.535 و -0.565 مئوية، وهي درجة أقل بقليل من نقطة تجمد الماء؛ وهو ما يجعل حشو الألبان داخل الجليد غير كافٍ لتبريدها لتصبح مادة صلبة.
بالتالي، كان التحدي يتمثل في العمل ليس فقط على كيفية تخزين الثلج والجليد، بل وأيضاً كيفية جعله أكثر برودة بمجرد حصولك عليه.
ومن المدهش أن الحل لهذه المشكلة التي تبدو مستعصية على الحل هو الملح.
عند إضافة الملح إلى الثلج أو الجليد، تُمتص الطاقة من البيئة المحيطة، وهو ما ينتج عنه شكل بدائي من التبريد.
وفي وقت مبكر من منتصف القرن السادس عشر، بدأ عشاق الطعام يكتشفون المزايا والاحتمالات التي تنطوي عليها هذه العملية.
فمثلاً في كتاب Magia naturalis (1558)، وصف العالم الموسوعي جيامباتيستا ديلا بورتا، من مدينة نابولي، كيف يمكن استخدام الثلج المليء بالملح لتجميد النبيذ، والذي لديه نقطة تجمد أقل من الماء مثل الحليب تماماً.
لكن متى استخدم تحديداً مزيج من الملح والثلج أو الجليد لإنتاج الآيس كريم، لأول مرة؟ لا أحد يدري.
في الواقع، هناك الكثير من الأساطير التي تحيط بهذا الأمر.
يقول البعض إن كاثرين دي ميديتشي أحضرت الوصفة معها إلى فرنسا عندما تزوجت هنري، دوك دورليانز في عام 1533، بينما اقترح آخرون أن تشارلز الأول ملك إنجلترا أعطى طاهيه معاشاً مدى الحياة للحفاظ على الوصفة الأصلية سراً للدولة.
لكن كل هذا ليس سوى خيالات من القرن التاسع عشر، تماماً مثل الادعاء بأن ماركو بولو عاد بالمثلجات من الصين في العصور الوسطى.
وبحسب ما أشار المؤرخان روبن وكارولين وير مؤخراً، فقد ظهرت أول مراجع مطبوعة عن المثلجات في أوروبا حوالي عام 1530.
لكن لم تظهر وصفة الصنع الأولى باللغة الإنجليزية إلا بعد نشر وصفات ماري إيليس في عام 1718. ولكن حتى في ذلك الحين، كانت الوصفة غامضة بشكل مضحك.
فقد كتبت إيليس: "كيفية صنع صفائح القشدة المثلجة. املأ الصفائح بأي نوع من القشدة التي تحبها، إما عادية أو محلاة، أو مع فاكهة مضافة؛ أغلق الصفائح بإحكام شديد.. ضعها في قبو حيث لا تصله الشمس أو الضوء، سيتجمد خلال أربع ساعات، لكنه قد يحتاج لفترة أطول…".
وصفات محسنة
بحلول عام 1768، عندما نشر م. إمري أول كتاب لوصفة المثلجات -L'Art de bien faire les glaces d'office؛ ou les vrais Principes pour congeler tous les rafraichissemens- أصبحت الوصفة أكثر دقة.
وقد أعطى عناية أكبر لوصف المدة التي يستغرقها الحليب حتى يتجمد بشكل دقيق؛ وكيف يجب تعبئة الثلج والملح؛ وكيف يمكن حماية المكونات من التلوث بواسطة المبردات.
لكن رغم ذلك كان هناك مجال كبير للتنوع، فقد استُخدم الحليب والقشدة والكاسترد بالتبادل تقريباً؛ وأمكن استخدام منكهات أكثر تنوعاً.
وقد نصحت جيري كوينزو، وهي مؤلفة كتب للوصفات، باستخدام بتلات الورد، والمعكرون المسحوق، والكراميل، والزنجبيل، والليمون، والمسك، والشوكولاتة، والغار، والطرخون، البقدونس، وحتى الهليون.
لسنوات عديدة، افترض المؤرخون أن النخب في المقام الأول هم مَن استهلكوا الأنواع المبكرة من المثلجات، وليس من الصعب معرفة السبب.
فقد كُتبت معظم الوصفات بيد أولئك الذين كانوا يهتمون بالأسر الأرستقراطية، أو حتى الأسر الملكية.
وخلال القرن الثامن عشر مثلاً، أنتج مصنع Sèvres مجموعة من مبردات وأطباق المثلجات الجميلة للويس الخامس عشر وحاشيته.
وفي عام 1813، رتبت زوجة الرئيس جيمس ماديسون لتقديم الآيس كريم في حفل تنصيبه في واشنطن العاصمة؛ وبعد 25 عاماً، كان بالزاك يتفنن في وصف المثلجات التي عُرفت باسم Lavish Plombières، والتي قُدمت كحلوى مثلجة في منازل باريس العظيمة في روايته Splendeurs et misères des courtisanes (1838-47).
ولكن بحسب مزاعم ميليسا كالاريسو، لم تكن المثلجات حكراً على النخب فقط، لا سيما في نابولي في القرن الثامن عشر.
يرجع ذلك جزئياً إلى حيوية تجارة الثلج، فقد كان بإمكان الناس المنتمين إلى الطبقات الأقل بكثير في الهرم الاجتماعي صنع وبيع المثلجات كذلك.
ولم يتوقف الأمر عند الكثير من المتاجر والمقاهي التي تبيع الآيس كريم فحسب، بل كان هناك أيضاً مجموعة من البائعين الذين باعوها في الشوارع؛ وهناك أدلة تشير إلى أن العديد من العائلات ربما يكونون قد صنعوها بالمنزل أيضاً.
مبتكرة الملمس الناعم للبوظة
لم تحصل البوظة على ملمسها الذي نعرفه اليوم إلا في عام 1843، عندما اخترعت نانسي جونسون، إحدى سكان نيوجيرسي، مبرداً ذا ذراع تدوير يدوية، ما سمح لها بصنع مثلجات ناعمة ذات ملمس حريري.
ويتكون هذا المبرد من حوض كبير يحتوي على طبقات من الجليد والملح، وأسطوانة مغلقة بإحكام على المكونات ومقبض قابل للإزالة، والذي يمكن من خلاله تحريك المثلجات حتى تتجمد بشكل صحيح.
لكن مبرد نانسي لم يكن ملائماً لصنع كميات كبيرة من الآيس كريم.
لكن عندما اخترع كلارنس فوغت من لويزفيل، كنتاكي، المبرد المستمر في عام 1926، أصبح من الممكن إنتاج المثلجات على نطاق صناعي.
وأدى الانفجار في الحركة الإنتاجية إلى دفع الأسعار للأسفل، ما جعل المثلجات الناعمة القشدية متاحة للجميع في كل مكان.
ومع بدء المزيد من الشركات في تأسيس علاماتها التجارية الخاصة بها، أدت المنافسة المتزايدة إلى توحيد المكونات الأساسية وإلى نكهات أكثر ابتكاراً من أي وقت مضى.
بحلول منتصف القرن العشرين، أصبحت المثلجات تجارة كبيرة.
واستجابة للطلب المتزايد باستمرار، طورت تقنيات جديدة للبسترة والتجانس والتجميد وبدأت الشركات المتخصصة تهيمن على السوق.
وعلى الرغم من بداياتها المتواضعة، أصبحت Baskin-Robbins (أسست في 1945)، و Häagen-Dazs (في 1961) و Ben & Jerry's (في 1978) شركات متعددة الجنسيات، وتفتخر بمجموعة واسعة من النكهات المميزة والاعتراف الفوري بالعلامة التجارية في جميع أنحاء العالم.