منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، شرعت اليابان في رحلة استمرت لعقود لبناء إمبراطورية في منطقة المحيط الهادئ.
وبعد الاستحواذ على كوريا وتايوان وكثير من الجزر المحيطة، ركزت اليابان أنظارها على الصين.
وبحلول العقد الثالث من القرن العشرين، كانت الصين تنحدر نحو حرب أهلية، بسبب التعارض المرير بين القبائل وسعي كل منها للظفر بالسلطة عقب عزل الإمبراطور الأخير من العرش.
وكما هو الحال دائماً مع محاولات الفوز بالسلطة على أرض أجنبية، واجهت اليابان تعقيدات بسبب التمردات والتكاليف المرتفعة. لذا لجأت اليابان إلى أحد الخصوم القدامى في الصين؛ لإضعاف مقاومة البلاد أمام الاحتلال وفي الوقت نفسه جني الأرباح لتمويل جيشها؛ وهو الأفيون.
إذن كيف بنَت اليابان إمبراطورية لتجارة الأفيون في الصين، ولماذا لا تزال هناك مخاوف عالقة إلى اليوم؟
غزو اليابان للصين ونشأة إمبراطورية المخدرات
بعد أن استولى الجيش الإمبريالي على إقليم منشوريا بشمال شرقي الصين في عام 1931، بدأ غزو اليابان لجارتها رسمياً.
ثم اندلعت صراعات صغيرة مع محاولة اليابان التوسع جنوباً من منشوريا إلى بقية الصين على مدى السنوات القليلة المقبلة.
وأخيراً، في عام 1937، شنَّت اليابان غزواً كاملاً للصين واستولت على بكين وشنغهاي وعديد من المدن الكبيرة الأخرى التي لم تتحرر إلا بهزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية.
لكن منشوريا ظلت تحت السيطرة اليابانية فترة أطول من أية منطقة أخرى، بحسب ما نشره موقع allthatsinteresting الأمريكي.
وفي منشوريا، بنَت اليابان دولة دمية سمتها "مانشوكو"، كانت تسيطر عليها واستغلتها عبر أساليب مختلفة.
كانت إحدى الوسائل المهمة التي استخدمتها اليابان هي صناعة الأفيون والمورفين والهيروين والتي استهدفت نشر الإدمان بين الرعايا الصينيين وإدرار أرباح لآلة الحرب اليابانية.
وبحسب تقارير حكومية دولية، فعلت اليابان الشيء نفسه في أماكن أخرى بالمحيط الهادئ طوال سنوات. وقال أحد المسؤولين الأمريكيين عام 1932: "كما يتضح من الحقائق التي لا تقبل الجدال، أنه أينما ذهب الجيش الياباني يتبعه الاتجار بالمخدرات".
وفي الصين، عُيِّنت الشخصيات الرئيسية في صناعة الأفيون بحكومة الإمبراطورية اليابانية؛ مما وضع تجارة المخدرات على قدم المساواة تقريباً مع الإمبراطور من حيث الأهمية.
ووصلت الأرباح الهائلة للإمبراطورية من بيع الهيروين والمورفين في وقت ما، إلى ما يعادل إجمالي الميزانية السنوية للصين، وضخت اليابان هذه الأرباح إلى قواتها العسكرية.
وكانت تلك خطة مُوجَّهة سمحت لليابان بالحفاظ على سيطرتها، التي اعتمدت بالكامل تقريباً على تجارة الأفيون.
تاريخ الأفيون الأسود في الصين
يمثل نبات الخشخاش المنوم المكونَ الأساسي لكل من الأفيون وكذلك المواد الأفيونية الأخرى مثل الهيروين والمورفين.
عندما يُعالَج النسغ في بذور نبات الخشخاش المنوم، يمكن استخدامه مسكناً قوياً للألم.
وفي الواقع، يُزرَع الأفيون بهدف استخدامه لتخفيف الألم منذ عام 3400 قبل الميلاد.
ويعود استخدامه في الصين طبياً وترفيهياً إلى القرن السابع الميلادي على الأقل.
لكن لم يكتسب الأفيون سمعته المرعبة في جميع أنحاء الصين إلا بعد فرض بريطانيا تعاطي هذا المخدر بالقوة؛ مما أدى إلى اندلاع حرب الأفيون في منتصف القرن العشرين.
وخلال حروب الأفيون، تلاعبت بريطانيا بملايين المواطنين الصينيين من خلال جعلهم مدمنين على الأفيون؛ مما أدى إلى إنشاء سوق إجبارية.
وظل الأفيون الوسيلةَ الأكثر شعبية التي لجأ إليها أمراء الحرب الصينيون لتمويل جيوشهم وشراء الولاء في عشرينيات القرن العشرين.
وفي الواقع، كان حاكم منشوريا نفسه، تشانغ شيوليانغ، مدمناً للأفيون. وحتى بعد أن توقف عن تعاطي المخدرات في عام 1928، دعم نظامه بأموال المخدرات، إلى أن انتهى حكمه في 1931.
وبالمثل، حين غزا اليابانيون إقليم منشوريا في 1931، دعموا سلطتهم بعوائد المخدرات.
خطة اليابان الجريئة بغزو الصين بمساعدة المخدرات
ينتمي الجنرال كينجي دويهارا إلى فئة من الرجال الإمبرياليين اليابانيين الذين رأوا في الصين مساحة يمكنهم فيها تحقيق جميع أحلامهم في المجد العسكري.
وكان دويهارا هو من قرر أنَّ اليابان يجب أن تدعم صغار المزارعين الصينيين لإنتاج الأفيون.
وبعدها سيُعالَج قطران الأفيون وصولاً إلى المورفين والهيروين عالي الجودة في المختبرات المملوكة لشركة ميتسوي اليابانية الضخمة، على أن يُبَاع بعدها في جميع أنحاء الأراضي اليابانية بوصفه دواءً.
وتم تبني هذه الفكرة بحماسة، وبحلول عام 1937، أُنتِج 90% من المواد الأفيونية غير القانونية في المختبرات اليابانية.
لكن أحلام دويهارا لم تتوقف عند هذا.
وكانت اليابان ترمي إلى غرضين من صناعة المخدرات هذه: الأول هو جني مبالغ كبيرة من المال لدفع الفواتير الضخمة التي تكبدتها مقابل الحفاظ على إمبراطورية مع استمرار توسعها في منطقة المحيط الهادئ.
وكان الهدف الثاني هو كسر إرادة الشعب الصيني حتى لا يقاوم الغزو والاحتلال، وكذلك توليد سكان خاضعين لا يثورون؛ خوفاً من فقدان جرعتهم التالية.
كانت أولى الخطوات التي اتخذها دويهارا لبيع بضاعته هي إنتاج عبوات خاصة من سجائر Golden Bat المزودة بالأفيون، وهي علامة تجارية فاخرة صنعتها شركة ميتسوي أيضاً.
ونُقِلَت إلى مانشوكو حيث وُزِعَت مجاناً على المدنيين الغافلين.
حتى إنَّ أصحاب العمل كانوا يدفعون أجور العاملين لديهم باستخدام "الحبوب الحمراء"، التي كانت في حقيقتها جرعات من الهيروين مُصنَّعة بعناية.
وبعد فترة وجيزة، تمكن دويهارا من بناء إمبراطورية إدمان.
وفي عام 1937، على سبيل المثال، أنتجت المناطق التي تسيطر عليها اليابان في منشوريا والأماكن المحيطة 2 مليون و796 ألف رطل من الأفيون، في حين كانت الاحتياجات الطبية المشروعة منه للعالم كله 500 ألف رطل فقط.
نهاية إمبراطورية المخدرات اليابانية
ولمساعدته في إدارة التوزيع والأموال، استعان دويهارا بناوكي هوشينو، المسؤول اللطيف والنزيه من وزارة المالية اليابانية، لكي يرأس مجلس احتكار الأفيون.
وأزال تعيين هوشينو في حكومة مانشوكو أية حواجز بين الإمبراطور والجهود المتعمدة لتدمير شعب الصين باستخدام المخدرات. وكان هذا عملاً ضخماً يحظى بمباركة الحكومة.
وبحلول عام 1941، وصلت إيرادات شركة يابانية واحدة فقط من مبيعات الأفيون إلى 300 مليون يوان، أي ما يعادل إجمالي ميزانية الحكومة الصينية خلال عام.
ومع انهمار أرباح تجارة المخدرات واستمرارها، تنامت عجرفة اليابانيين. حتى كتب بعض القادة العسكريين، وفقاً لكتيب وُزعوه على قواتهم:
"إن عِرقاً متفوقاً كالعرق الياباني لا يجدر به استعمال المخدرات. فقط الأجناس المتدنية، الأجناس المتفسخة مثل الصينيين والأوروبيين والهنود الشرقيين، هم من يدمنون استعمال المخدرات. ولهذا السبب هم محكوم عليهم بأن يصبحوا خدماً لنا، حتى يضمحلوا ويتلاشوا في نهاية المطاف".
لكن هذه الرؤية لم تنطبق على الواقع، فقد اعتمد الجنود اليابانيون أيضاً على المخدرات لتخفيف صدمة الحرب والآثار النفسية للانفصال عن منازلهم وأسرهم.
وعلى الرغم من التهديد بالعقاب الشديد، فقد أدمن الجنود اليابانيون تعاطي الهيروين والمورفين على نطاق واسع.
وكانت مشكلة الإدمان منتشرة في الجيش الإمبراطوري الياباني انتشاراً استوجب تخصيص مستشفيات بأكملها لمعالجة الإدمان.
لكن حتى وإن ظل الجنود اليابانيون متماسكين وممتنعين عن التعاطي، فإن الجيش الإمبراطوري بوجه عام كان يخسر الحرب العالمية الثانية، وسرعان ما فُككت بعدها حلقة المخدرات في البلاد وجرى الكشف عنها.
الإرث الخفي لحلقة المخدرات اليابانية
بعد أن أعلنت اليابان استسلامها، انتهت الحرب العالمية الثانية في عام 1945 وخسرت البلاد الأراضي التي احتلتها، أنشأت قوات الحلفاء المنتصرة "المحكمةَ العسكرية الدولية للشرق الأقصى"، التي ضمت من بين المجرمين الذي قُبض عليهم وحُوكموا أمامها كينجي دويهارا وناوكي هوشينو.
أُدين دويهارا بارتكاب جرائم حرب، وحُكم عليه بالإعدام، ليشنق في عام 1948.
أما هوشينو، فقد حُكم عليه بالسجن مدى الحياة، لكنه قضى 13 عاماً فقط في السجن. وبعد إطلاق سراحه، عمل في مهنة مريحة بالقطاع الخاص، وتوفي بسلام في عام 1978 عن عمر 85 عاماً.
لكن حتى بعد ظهور بعض هذه الجرائم خلال المحاكمات، لم يُدرك تماماً مدى اعتماد اليابان على أموال المخدرات في تمويل نظامها العسكري حتى بدأ المؤرخون في الكشف عن وثائق سرية ذات صلة.
أحد تلك الاكتشافات ما برز في عام 2007، عندما استعاد مراسل يعمل بصحيفة The Japan Times وثيقة مكونة من 21 صفحة من أرشيف "مكتبة البرلمان الياباني الوطنية" في طوكيو، والتي سردت قصة إمبراطورية المخدرات اليابانية في الصين لجمهور عالمي جديد لم يكن يعرف عنها شيئاً.
وفقاً للوثيقة، باعت إحدى الشركات وحدها 222 طناً من الأفيون في عام 1941.
ومع ذلك، فما زلنا لا نعرف على وجه الدقة كمية الأفيون التي باعتها اليابان، وكم من الصينيين أدمنوه وماتوا، ومقدار الأموال التي جناها الجيش الإمبراطوري الياباني ليستعملها في تعزيز قدراته الحربية.
لكن، وبصرف النظر عن دقة الأرقام، لا يزال مخطط إمبراطورية المخدرات اليابانية ونشرها لاستعمال أرباحها في تمويل الجيش الياباني فصلاً مظلماً آخر من فصول الحرب العالمية الثانية.