إنَّ عمر الإنسان محدود والكتب كثيرة كما يقول الروائي الكبير ميلان كونديرا، بحيثُ لا يمكن متابعة كل مايصدرُ من العناوين وقد تفوتُ على القارئ مؤلفات قيّمة دون أن يحظى بالاستفادة من محتواها الزاخر بالأفكار التي قد تكسر جليد الرأس وتنفض غبار الكسل عن العقل. ويمرُ كثير من الوقت قبل أن يدركَ القارئ بأنَّ انتقاء العناوين هو فن كما الحياة والعيش. إنَّ التحرر من قيد النمطية والشكليات يستغرقُ كثيراً من الوقت وذلك يتطلبُ الرؤية الموضوعية في التعاطي مع المنجزات الأدبية والفكرية بعيداً عن المواقف المسبقة حول الأسماء وخلفياتها الأيديولوجية والقومية والدينية. ذلك لأنَّ الهدف من القراءة ليس دعماً لمعتقداتنا إنما هو اختبار لما تراكم في صندوق الرأس وتكنيس لمدخنة العقل. يقول بطل رواية (الغثيان): إني محتاج إلى تنظيف نفسي بأفكار مجردة، شفافة كالماء. وهذا ما تتوخاه المساعي المعرفية النقيضة لصناعة الظاهرة الصنمية التي هيمنت على الوسط الثقافي ويتمُ تطويع الجمهور القراء لرفد ما يسوقه الإعلام من الأسماء التي قد تتصدرُ المشهد لمدة ومن ثمَّ تعقبها موجة جديدة.
رحلة الاستكشاف
لا شكَّ أن علاقة القارئ بكاتبه لا تتوقف عند الأثر بوصفه وسيطاً بين الطرفين إنما تصبح الشخصيات الأدبية جزءاً من ذاكرة القارئ الثقافية، بالتالي يمثلُ الأديب جانباً وجدانياً بالنسبة لمُتابعيه لأنَّ زمن القراءة عامل مؤثر في تشكيل رؤيتك للنص وتفاعلك مع أجوائه لذا لا استغراب من إشارة بعض الأفراد إلى ما يربطهمُ من علاقة حميمة مع العناوين التي قرؤوها في البدايات ولم يتلاشَ أثرها بمرور الوقت. والحال هذه فإنَّ عملية القراءة تحكمها مؤثراتُ خارجية رغماً عن أنف البنيويين ولا تفيدُ النظرة المختبرية لفهم العلاقة القائمة بين صاحب الأثر والمتلقي.
يصحُ توصيف عملية القراءة بأنها رحلة الاستكشاف والخروج من الأسيجة المفاهيمية ومعاينة الأفكار. لذلك لا يجوز الانسياق خلف الأسماء كما أنَّ جودة عمل معين قد لا تشفعُ للمؤلف متابعة سائر أعماله دون التفحص لأنَّ قلةً من الكتاب يحتفظون بمستوى عالٍ في الإبداع في كل ما يقدمونه. وقد يعجبك عمل معين ويغذي لديك الرغبة لملاحقة ما نشره صاحبه من المؤلفات غير أنَّ ما قد يقعُ عليه النظرُ دون مستوى ما كان بمثابة البطاقة التعريفية لعالم الكاتب. وهذا ما يؤكد أحقية مؤلف "حفلة التفاهة" الذي يوصي بقراءة أفضل عمل لأي كاتب حتى يكون الوقت متاحاً لغيره أيضاً. ويكتسب معظم القراء تجربة على هذا الصعيد، ومن قرأ رواية "قطار الليل إلى لشبونة" لباسكال مرسيه من المؤكد أن يكون متشوقاً لمتابعة أعماله الأخرى لكن يتفاجأ بأن روايته المعنونة بـ"ليا" ليست بمنزلة ملحمته التي تتناول رحلة وجودية في حياة البروفسيور "غريغوريوس" وهذه الحالة تنسحبُ على كثير من العناوين. مؤدى ما قدم سلفاً أنَّ الانسلال من غلالة العمل الذي قد أعجبك أمر ضروري قبل أن تقع في شرك القراءة الدائرية بمعنى أن لا تضيف لك المتابعة ولا تفتحُ لك أفقاً جديداً. ماذا تنفع القراءة والكتب أساساً إذا لم تورثْ فضيلة اللايقين. ما يثير العجب ليس فتور علاقتك بمن كان يمثلُ كاتبك المفضل سابقاً إنما عدم الخروج من مداره هو الأجدر بالاستغراب هنا. نستعيد لحظة معرفة نيتشه بشوبنهاور الذي تفاعل مع فلسفته المتقشفة إلى أقصى حد، لكن ما إن يمضي في الطريق حتى ينقلبَ عليه، هذا لا يعني بأنَّ ما قام به فيلسوف المطرقة يجبُ أن يتحول إلى سنةٍ في علاقة القارئ بأستاذه بل ما ذكر آنفاً هو مجرد مثال عن ضرورة تثوير فعل القراءة.
ضد المحاكمة
لا تُحاكم النصوص الإبداعية انطلاقاً من سلوكيات صاحبها ولا يجوز إصدار الأحكام القيمية على الأثر الأدبي بالاستناد إلى مواقف الكاتب السياسية أو الاجتماعية، لأنَّ الإنسان كما يقولُ نيتشه كائن غير مكتمل. وأكثر من ذلك فنحن لا نقرأ لمن يكون منهجه في الحياة مطابقاً لفكرنا ورؤيتنا فالتطابق مطب يجبُ تفاديه ويؤدي إلى الجمود، إذاً لا ضير من الفصل بين النص وشخصية كاتبه عملاً بمبدأ "ما لقيصر لقيصر". لكن القارئ من حقه أن يتطلعَ للتحرر من الأسماء التي قد أسبغ عليها في مرحلة معينة صفات مثالية عندما يتأكد بأنَّ هؤلاء قد صعنوا أمجادهم الجوفاء على أساس هش صحيح. وقد يصعبُ على القارئ هضم هذا الموقف وربما يصطدمُ بما يكتشفه من الحقائق، لكن هذا الأمر هو من خصائص درب المعرفة إذ يجبُ إدراك الفرق بين الحقيقة والظل، ولا خوف من الالتفات للتأكد من الصورة، على غرار ما فعله "أورفيوس".
ما يشدُ الانتباه في سيرة بنسالم حميش المعنونة "الذات بين الوجود والإيجاد" هو صراحته في ذكر بعض شخصيات أدبية كان معجباً بنتاجاتها غير أنَّ ما يكتشفه عن هؤلاء يحدو به لإعادة النظر فيما هو بمثابة المسلمات في الوسط الثقافي. إذاً فإن السؤال الأساسي هو كيف يكون رد فعلك إذا اكتشفت بأن كاتبك المفضل الذي تحبه وتهتم بكل ما ينشره له وجه آخر غير ما عرفته به هل نتجاهل الحقيقة ونواصل متابعة أعماله الأدبية أو نتحرر من وهم الصورة الأولى؟
وحتى لا يكون على صيغة السؤال حجة يجب التأكيد بأنَّ السلوك الشخصي للمؤلف لا ينزع القيمة من أثره، علماً بأنَّ نظرية موت المؤلف لا يؤمنُ بها كثير من القراء ويستحيلُ بالنسبة لديهم الفصل الكامل بين المؤلف ونتاجاته الأدبية والفكرية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.