ما هي معدلات الوفاة من فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)؟ 11%، بل 6%، لا 4% ، لا لا بل هي 1%، في الحقيقة هي 0.35%. رغم أن الفرق بين النسبة الأولى والأخيرة أكثر من 30 ضعفاً، لكن كل الأرقام صحيحة بشكلٍ ما، فالأولى هي النسبة المسجلة في إيطاليا حتى نهاية مارس/آذار، والنسبة التالية لوفيات الفيروس في المملكة المتحدة، تليها الصين، ثم ألمانيا، وأخيراً إسرائيل، وهي في النهاية تظل نسباً أكبر كثيراُ مقارنة بمعدل وفيات الإنفلونزا الموسمية البالغة حوالي 0.1% أو الالتهاب الرئوي البالغة 0.2% في البلدان مرتفعة الدخل.
لكن لحظة، أليس الأمر غريباً؟ لماذا تختلف معدلات الوفاة من بلد لآخر؟ ولماذا هذا التفاوت الكبير في النسب؟ هناك العديد من العوامل أولها طرق إحصاء الحالات وفحصها التي تختلف من بلد لآخر، وتجهيزات المستشفيات وأولوياتها في استقبال المصابين، وكذلك التركيب العمري والتاريخ المرضي للسكان، وتوقيت انتشار الوباء في كل بلد، وعوامل أخرى نستعرضها في التقرير التالي.
طرق الإحصاء والفحص
معدلات الوفاة تحصى بالأساس بطريقتين، إما أن تحسب نسبة الوفيات من إجمالي عدد الإصابات المؤكدة، وذلك بحساب عدد الوفيات التي يجزم الأطباء أنها بسبب كورونا، أو أن يقسم عدد الوفيات على إجمالي نسبة المصابين إجمالاً حتى قبل إجراء الفحوصات، وهنا تشمل الوفيات التي قد يعتقد الأطباء أن سبب الوفاة هو الفيروس المستجد، لكن لم تجرِ لهم فحوص مخبرية تؤكد أو تنفي، فيما يمكن أن تحسب معدل الوفيات في دول أخرى مقارنة بإجمالي السكان الكلي، وهذه الطريقة ستعطي نسبة بعيدة للغاية.
لكن كيف يجعل ذلك النتيجة تختلف؟ لنفترض مثلاً أن 100 شخص أصيبوا بالفيروس، لكن 10 فقط نقلوا للمستشفى بعد اشتداد أعراض المرض، وأجريت لهم تحاليل أثبتت إصابتهم، عكس الـ 90 الآخرين المصابين الذين لم يتأكد بالتحليلات إصابتهم. بعد ذلك توفي أحد العشرة المرضى في المستشفى، كم ستكون نسبة الوفيات؟ وفق إحصاءات الجهات الصحية ستكون 10% لكن النسبة الحقيقية 1%.
لذلك فإن عوامل كثيرة تحدد هذه النسبة، مثل إمكانية الدول من إجراء الفحوصات، فبعضها تقيد الفحص إلا إذا ثبت اختلاطهم بحاملين للفيروس، ودول أخرى لا تجريه إلا إذا ظهرت أعراض أعلى من المتوسطة على المريض، وثالثة لا تملك إمكانيات طبية كافية لفحص الأعداد الكبيرة.
لذلك فإننا سنجد الدول التي تقوم بإجراء فحوصات كثيرة بها نسبة أعلى لمعدل الوفيات، لتمكنها من تشخيص أعداد إصابات أكبر بفضل إجرائها فحوصات على أغلب شرائح المجتمع سواء ظهرت عليهم أعراض أم لم تظهر، وهذا ما سنلاحظه مثلاُ في الفرق بين ألمانيا (أجرت اختبارات لنحو 900 ألفاً وتبينت إصابة أكثر من 100 ألف توفي منهم نحو ألفين) وبين بريطانيا (أجرت اختبارات لنحو 266 ألفاً وتبينت إصابة أكثر من 55 ألفاً مات منهم 6 آلاف) على سبيل المثال. (الأرقام محدثة بتاريخ 8 أبريل/نيسان اعتماداً على أرقام موقع World Meter)
إثبات سبب الوفاة لمرضى بأمراض أخرى
أيضاً بالنسبة لأصحاب الأمراض المزمنة التي قد تتسبب في الوفاة لا يؤخذ تاريخهم الصحي في الحسبان في بعض الدول مثل المملكة المتحدة، إذ تحسب وزارة الصحة والرعاية الاجتماعية حصيلة الوفيات بالفيروس المستجد لأي شخص مات وذكر إصابته بكورونا في تقريره الطبي، حتى وإن لم تكن هي سبب وفاته الأصلي بل فاقمت وضعه الصحي مع إصابته بمرض مزمن مثل السرطان والربو والسكتة القلبية وتمدد الأوعية الدموية.
هذا الأمر تماماً هو الحادث في إيطاليا وألمانيا أيضاً، إذ قال المستشار العلمي لوزير الصحة الإيطالي الأسبوع الماضي: "12% فقط من شهادات الوفاة الأخيرة تظهر أن الفيروس التاجي هو السبب المباشر للوفيات".
على العكس في الولايات المتحدة، في البداية، كانت هيئة "مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها" تترك المجال للأطباء لذكر سبب الوفاة الذي يعتقده دون إلزامٍ بكتابة إصابته الأخيرة بكورونا على أنها السبب المباشر للوفاة، وفق تقرير هيئة الإذاعة البريطانية (BBC).
التركيب العمري للسكان
التركيب العمري للسكان يلعب دوراً أيضاً في زيادة الوفيات بشكلٍ عام، وكذلك مستوى الصحة العامة للمواطنين، سواء لإصابتهم بأمراض مزمنة قبل ذلك، أو لحملهم الفيروس الذي قد يكون سبباً مباشراُ للوفاة أو غير مباشر في مفاقمة وضعهم الصحي الحرج بالأساس. ومن المنطقي أن يؤثر الفيروس على الجهاز المناعي للأشخاص المرضى أكثر من الأصحاء، كما تضعف دفاعاتنا المناعية مع تقدمنا في السن ، وتصبح أجهزتنا المناعية أقل فعالية.
فإذا نظرنا إلى إيطاليا التي سجلت النسبة الأعلى في وفيات الفيروس، نجد أنها تسجل بالأساس وفيات أعلى من المعتاد في دول الاتحاد الأوروبي في مقاومة الجراثيم، إذ نقلت BBC عن كارل هينغان، أخصائي الأوبئة بجامعة أكسفورد، تأكيده أن إيطاليا سجلت ثلث الوفيات الناجمة عن مقاومة الجراثيم للمضادات الحيوية بين دول الاتحاد الأوروبي بشكل عام. ورغم أن المضادات الحيوية لا تساعد في القضاء على الفيروسات، لكنها قد تسبب مضاعفات، مثل الالتهاب الرئوي الجرثومي، الذي يسبب الوفاة حال استعصى علاج الجراثيم بالمضادات الحيوية.
أيضاً نسبة كبار السن في إيطاليا أعلى منها في الصين مثلاً. إذ يمثل كبار السن الذين تجاوزوا 65 عاماً ربع سكان إيطاليا (نسبة أعلى من أي بلد آخر باستثناء اليابان)، بينما يمثلون أقل من نصف هذه النسبة في الصين 11%، وفق إحصاءات التعداد السكاني بالعام 2019 التي نقلها موقع vox الأمريكي. وقد كان متوسط عمر الإيطاليين الذين ثبتت إصابتهم الإيجابية هو 62 سنة، والغالبية العظمى من الذين توفوا كانوا فوق الـ 60 عاماً.
تجهيزات المستشفيات وأولوياتها في استقبال الحالات
أيضاً في البلدان التي تفشى بها الفيروس قررت المستشفيات مع تجاوزها للطاقة الاستيعابية استقبال حالات محدودة غير ميؤس منها، وقد زاد ذلك من معدل الوفيات، كما حدث في إيطاليا وإسبانيا بدرجة كبيرة، إذ اتخذت المشافي قرارات بحرمان الحالات الحرجة من العلاج واستخدام أجهزة التنفس أو أسرة المشافي في مقابل الحالات الأقل خطورة التي يسهل إنقاذها.
أيضاً، إذا كان هناك عدد قليل من أسرة العناية المركزة وأجهزة التنفس الصناعي، فمن المرجح أن هؤلاء المرضى الذين لا يحصلون على هذه الرعاية سيكونون أكثر عرضة للوفاة. وبالطبع تختلف نسب توفر ذلك حسب إمكانيات الدول.
إذ إن هناك اختلافات كبيرة بين ألمانيا وإيطاليا. يبلغ عدد سكان إيطاليا حوالي 60 مليون نسمة. في بداية الوباء كان هناك حوالي 5000 سرير في العناية المركزة هناك، بينما يبلغ عدد سكان ألمانيا حوالي 80 مليون نسمة و 28000 سرير في العناية المركزة، أي نحو 6 أضعاف التجهيزات بإيطاليا.
عدد أسرة العناية المركزة المتاحة في أنحاء العالم قصة أخرى، إذ يوجد في ألمانيا 29 سريرًا لكل 100.000 شخص، بينما يوجد في الولايات المتحدة الأمريكية 34 سريرًا لكل 100.000 شخص، ويوجد في إيطاليا 12 سريرًا فقط للعدد نفسه، وفي إسبانيا فقط 10 أسرّة للعناية المركزة لكل 100.000 شخص.
توقيت انتشار الوباء في كل بلد
يؤكد مايك رايان، المدير التنفيذي لبرنامج الطوارئ الصحية لمنظمة الصحة العالمية في تصريح لصحيفة Financial Times البريطانية، أكد أن المرحلة التي وصل إليها الوباء في البلد أمر مهم في تحديد نسبة الوفيات، وكذلك درجة استعداد نظامه الصحي في أي مرحلة من مراحل دورة الوباء.
فنجد في البلدان التي تضررت بشدة من تفشي المرض -مثل إيطاليا وإسبانيا- ظهر الوباء في وقت أبكر مما كان عليه في ألمانيا، وبما أن الأمر يستغرق وقتاً من اللحظة الأولى للعدوى إلى النقطة التي يموت فيها مريض يعاني من أعراض مضاعفة، فمن المرجح أن يرتفع معدل الوفيات بين الحالات المؤكدة مع اقترابنا من نهاية دورة الفيروس، وفق تفسير آخر للنسخة الإنجليزية لموقع Deutsche Welle الألماني.
التقديرات الأولية غير دقيقة كما يقول تاريخ الأوبئة
إنها عادة تفشي الأوبئة، إذ تذكر تقديرات أولية سريعة لنسبة الإصابات والوفيات ومدى سوء الوباء، لكن بعد فترة من مروره ومراجعة الحسابات بدقة تكون الأرقام أقل على الأغلب. ومثالاً على ذلك تفشي وباء إنفلونزا الخنازير بالعام 2009، بعد 10 أسابيع من انتشاره أعلن أن نسبة تسببه بالوفاة بين 0.1 و5.1%، وقد كانت التقديرات الأولية أعلى، لكن بعد فترة من توفر الفرصة للأطباء لمراجعة الحالات والملفات تبين أن معدل الوفيات الفعلي هو 0.02%، وهو رقم أقل بـ 5 مرات من أصغر نسبة مسجلة، وأقل بـ 255 مرة من النسبة الأكبر.
وفيات لا تسجل في بعض الدول
بالطبع تسقط بعض الوفيات من الحسابات في بعض البلدان، لأسباب عدة، منها عدم تشخيص المرضى بالفيروس الذي يتسبب بمقتله دون أن يحتسب أنه ناجم عن الإصابة بالفيروس المستجد، ويكثر هذا في الدول منخفضة المستوى الصحي والتي تعجز مشافيها عن استيعاب المرضى، أو الدول التي ينخفض بها مستوى الوعي المجتمعي بالفيروس وأخطاره، فيتسبب في وفاة حامله دون أن يعرف حتى أنه مصاب به لعدم إجرائه تحليلاً أو الذهاب للمستشفى.
عموماً، لكون الفيروس جديداً، فإن وتيرة إجراء الفحوصات المخبرية بطيئة في الكثير من دول العالم، لذلك يصعب معرفة الأعداد الحقيقية للإصابات والوفيات. فقد يصاب بعض الأشخاص ويكتسبون مناعة ضد الفيروس دون أن يعرفوا حتى بإصابتهم لعدم ظهور أعراض المرض أو ظهور أعراض خفيفة تشبه الإنفلونزا الموسمية.
لكن متى تكون نسبة معدلات الوفيات دقيقة؟ لا يمكن الحصول على أرقام دقيقة إلا بفحص الأشخاص الذين تظهر عليهم أعراض والأشخاص الذين لم تظهر عليهم الأعراض، حتى تكشف نتائج الفحوص عن مدى تأثير الوباء على جميع السكان وليس المصابين فقط، وهو ما سيحتاج الكثير من الوقت والموارد والجهد لتحقيقه في بعض البلدان، بينما يستحيل تقريباً في بلدان أخرى.