لم يخسر نابليون بونابرت معركة برية قط إلا مرة واحدة في حياته، عندما حاول اقتحام مدينة عكا، والتي كان يحكمها الوالي العثماني ذو الأصول البوسنيّة أحمد باشا الجزار في العام 1799. فبعد 63 يوماً من حصار المدينة التي عززها الجزار بكل ما يستطيع من إمدادات عثمانية، غادر نابليون المنطقة قائلاً: "عكا جعلتني أخسر قدري.. ولو سقطت لغيرت وجه العالم". فمن هو أحمد باشا الجزار وكيف تمكن من هزيمة الإمبراطور الفرنسي؟
من هو أحمد باشا الجزار؟
ولد أحمد باشا باسم أحمد البوشناقي في العام 1734م في البوسنة، التابعة للسلطنة العثمانية آنذاك. ثم بدأ حياته العسكرية متدرجاً تحت قيادة المماليك في مصر، إلى أن أصبح والي صيدا وعكا، حتى توفي في 7 مايو/أيار 1804.
لكنّ رحلة حُكمه ولايتَيْ صيدا وعكا لا تخلو من المغامرات.
ولد البوشناقيّ في البوسنة لأسرةٍ مسيحية، وهرب إلى إسطنبول في مطلع شبابه نتيجة تورطه في جريمة. هناك باعه تاجر رقيق للباب العالي، حيث اعتنق الإسلام بإرادته، ثم توجّه إلى القاهرة مع قافلةٍ عائدة من الحج، وانضم لخدمة أحد المسؤولين في البحيرة بشمالي مصر؛ عبدالله بك المملوكي، وتزوج من امرأة مصرية من أُصولٍ حبشية.
لماذا لُقب بالجزار؟
قتل أستاذه عبدالله بك المملوكي على يد مجموعة من البدو، فما كان منه إلا أن انتقم له عبر شنّ غاراتٍ متتالية على البدو، حيث أعد كميناً ذبح فيه أكثر من 70 بدوياً بينهم عدة شيوخ وقادة أقوياء للبدو، فاكتسب لقب "الجزار"، هذه بالطبع إحدى الروايات التي تشرح سبب لقبه، لكنّها لا يمكن ترجيح صحتها بشكلٍ كامل.
لاحقاً، عمل أحمد باشا الجزار عند علي بك الكبير، الذي حكم مصر بين عامي 1768م و1773م، ليفتتح خدمته لعلي بك، بأن قدم له رؤوس 4 شيوخ يعاديهم من البدو، فاستخدمه للتخلص من معارضيه ومنافسيه ومنحه لقب بك.
لكن سرعان ما نفذ القائد العسكري لعلي بك محمد بك أبو الذهب انقلاباً عليه.
في لبنان.. طموح أكبر من أمراء الجبل
أدرك الجزار وقتها أنه من الصعب مقاومة انقلاب أبو الذهب، فذهب إلى جبل لبنان، حيث كان يستقر الدروز. كان جبل لبنان يخضع لسيطرة الأمير يوسف الشهابي، حاكم ساحل لبنان ومدن حمص وحلب. فكلّف الجزار بحماية مدينة بيروت من أي هجوم، لكن الجزار كان يخطط للاستيلاء على بيروت نفسها، ليحكمها.
بنى الجزار سوراً قوياً حول المدينة من الحجارة الأثرية التي خلّفها زلزال عام 511م، ثم انقلب على صديقه الأمير يوسف الشهابي، الذي استطاع استعادة السيطرة على بيروت بمساعدة الشيخ ظاهر العمر حاكم منطقة الجليل والأسطول الروسي، الذي كان موجوداً قبالة شواطئ المنطقة بطلبٍ من بعض الولاة في المنطقة، والذين كانوا يطمحون إلى الاستقلال عن الدولة العثمانية.
وقتها سرق الجزار أموال الضرائب في بيروت وهرب بها عام 1773م عائداً إلى السلطان العثماني آنذاك مصطفى الثالث، الذي فوّضه والياً على مدينة صيدا ومنحه لقب "باشا".
من صيدا.. عينٌ على عكا وأخرى على مصر
كان طموح الجزار كبيراً جداً ويتخطى حدود صيدا، سيطر على القوى المحلية والعشائرية بقسوة وجنّد المرتزقة والمغاربة من تونس والجزائر والألبان والبوسنيين، وسعى لتحقيق الحلم بحكم فلسطين وجنوب سوريل ولبنان، بل طمع في حكم مصر.
كان السلطان يراقب توسعاته ونفوذه وطموحاته، فحاول أكثر من مرة تنحيته أو نقله إلى ولاية بعيدة مثل البوسنة، لكنه كان يرفض. اتخذ الجزار عكا مركزاً لولايته فحصّنها وبنى لها سورين، وبنى الأبراج وأنشأ الجسور، وأقام سوقاً وحماماً وثكنة عسكرية، وأوصل المياه إلى المدينة، كما بنى خاناً كبيراً (خان الجزار) الذي يعرف حالياً بـ"خان العمدان".
في السنوات التي تلت العام 1776، هزم قوات حليفه الشيعي نصيف النصار، معززاً سيطرته على منطقة جبل عامل جنوب لبنان.
وفي عام 1795، تم تعيين الجزار والياً على الشام لأربع ولايات متتالية، وفي كل مرة كان يكتسب نفوذاً متزايداً في شؤون المحافظة، رغم معارضة منافسيه من عائلة عزم.
في تلك الفترة، قام الجزار بإجلاء الفرنسيين من مقرهم التجاري في عكا، كما أمر القنصل الفرنسي بمغادرة عكا، ثم احتكر تجارة الحبوب والقطن مما ضاعف وارداته المالية.
أحمد باشا الجزار في مواجهة نابليون بونابرت
في عام 1799 كانت المواجهة الملحمية مع نابليون بونابرت، الذي شن حملة فرنسية على مصر، ومنها انطلق إلى سواحل البحر المتوسط الشرقية.
علم أحمد باشا الجزّار بنبأ الاحتلال الفرنسي لمصر عام 1798، فبدأ بتحصين عكا مباشرة بكل ما أوتي من قوة. واستعد لحصار عكا قبل عام كامل من وقوعه، عبر تأمين العتاد والمؤن والمواد الغذائية للسكان والقوات.
بعد ذلك تقدم الفرنسيون من مصر إلى غزة ويافا ثم حيفا، حيث أقام نابليون مقر قيادته على جبل الكرمل.
كان نابليون الذي كسب معاركه في مصر وفلسطين متأكداً أن هذه المدينة لن تصمد أمامه أكثر من يومين، لذا بادر إلى إرسال رسالة ملؤها الكبرياء والعجرفة إلى القائد العثماني الهرم، قال فيها: "إنني الآن أمام قلاع عكا، ولن يكسبني قتل شخص هرم مثلك شيئاً… لذا فأنا لا أرغب في الدخول معكم في معركة… كن صديقاً وسلم هذه المدينة دون إراقة الدماء".
لم يتأخر جواب القائد العثماني، ولكنه لم يكن الجواب الذي توقعه نابليون. قال القائد العثماني أحمد باشا الجزار في رسالته الجوابية:
"نحمد الله تعالى لكوننا قادرين على حمل السلاح، وقادرين على الدفاع… إنني أنوي أن أقضي الأيام القليلة الباقية من عمري في الجهاد ضد الكفار".
عندما تسلم نابليون هذا الجواب الذي قطع أمله في الدخول إلى المدينة ظافراً دون قتال، التفت إلى ضباطه وقال لهم بضيق ونفاد صبر:
"لقد أصبح من الواضح الآن أن هذا الشيخ الهرم سيكون سبباً في ضياع بضعة أيام منا… ولكن لا بأس… لا تقلقوا… سنكون بعد يومين في وسط هذه المدينة… سنلقنهم درساً لن ينسوه".
لكن الشهور المقبلة ستثبت عكس آمال القائد الفرنسي، وتغير وجه تاريخ المنطقة.
بونابرت يحاصر عكا المتحصنة
في 20 مارس/آذار سنة 1799م، اتخذ الجيش الفرنسي موقعه أمام عكا، وبدأ الجنود الفرنسيون يحفرون الخنادق.
وفي 28 مارس/آذار، أمر نابليون بالهجوم، فقذفت حصون عكا بالقنابل الفرنسية. رد الجزار بنيران مضادة دمرت الكثير من القوات الفرنسية، ورغم ذلك استطاع الفرنسيون أن يتسلقوا أسوار المدينة، إلا أن صمود أهلها وجنودها ردهم خائبين.
الجزار يدبر فخاً مميتاً لجنرالات بونابرت
جدّد نابليون الهجوم في الأول من أبريل/نيسان، ومجدداً في 7 مايو/أيار، حين استطاعت قواته اختراق سور عكا الأوَّل ووصلت إلى السور الثاني، حيث المصيدة الكبيرة التي رتبها الجزار بالتعاون مع الإنجليز.
ترك الجزار القوات الفرنسية المكونة من حوالي 200 جندي تدخل أسوار المدينة من خلال الفتحات التي تسبب بها القصف المدفعي الفرنسي، وعندما اقترب الجنود من حدائق القصر أبادهم جميعاً، بما فيهم جنرالات كبار في صفوف الجيش الفرنسي.
وفي 9 مايو/أيار، أمر نابليون الجنرال كليبر -الذي قام بغاراتٍ موفقة على الجليل- أن يزحف على عكا تعزيزاً لقوات الحصار. استعد الفرنسيون للهجوم وكان نابليون أول المهاجمين، إلا أن نيران عكا قتلت الكثير من المهاجمين؛ كان منهم جنرالات وضباط كبار أيضاً.
بعد هذه الخسارة الفادحة قرّر نابليون الرحيل!
الهزيمة التي كانت ستغير العالم لو نجح بونابرت
أدرك بونابرت أن عكا عصية عليه، ولن يتمكن من فتحها، فأقر بالهزيمة، لكنّه أبى أن ينسحب دون أن يوقع بها أشد الخسائر، فأصدر قراراً بدكّ المدينة لمدة 4 أيام، كانت المدة المطلوبة لانسحاب قواته، ونقل الجرحى.
ترك بونابرت خلفه 3 آلاف جندي قتلوا في عكا نتيجة القتال أو مرض الطاعون. وعن تلك الهزيمة التي لم تفارق ذاكرته قال جملته الشهيرة: "عكا جعلتني أخسر قدري، ولو فتحتها لغيّرت العالم".
وبعد 20 عاماً من هزيمته في عكا قال بونابرت في مذكراته: "لو استوليت على عكا لكان الجيش الفرنسي وصل إلى حلب ودمشق، وفي غمضة عين كنت وصلت إلى الفرات، ولكان مسيحيو سوريا والدروز ومسيحيو أرمينيا انضموا، ولكانت شعوب منطقة الشرق ثارت".
ثم قال: "لو كنا نعلم ما سيحدث لكنت وصلت إلى القسطنطينية أو حتى الهند، ولكنت غيرت وجه العالم".
عاش أحمد باشا الجزار بعد ذلك النصر مدة 5 أعوام، حاول خلالها إقناع إسطنبول والسلطان سليم الثالث، بتوليته مصر إلى جانب الشام، لكنه توفي قبل أن يتحقق الحلم الأخير في عام 1804 بعد معاناته مع مرض يعتقد المؤرخون أنه الملاريا.