مضى أكثر من قرن ونصف القرن منذ تأسيس أول اتحاد للعبة في 1863. استطاعت كرة القدم النمو ومواكبة التطور، تنوعت التكتيكات والاستراتيجيات؛ ما جعلها تصمد أمام عوامل الزمن.
الغاية تبرر الوسيلة
80 دقيقة مضت من عمر المباراة، أمل تعويض تأخره بهدفين يتلاشى أمام السرعة الخاطفة للعد التنازلي للنهاية، الجماهير تتابع سقوط الفريق على ملعبه، يتضرعون للسماء على أمل تأمين نقطة وحيدة فقط، المدرب، اللاعبون، الجهاز الفني وكل من ينتمي لألوان الفريق في حاجة ماسة لمعادلة الكفة. كمدرب يقف بين شقي الرحى، هل يلتزم بمثله العليا وأسلوبه، أم يتصرف بناء على الموقف بدلاً من التشبث بالمبادئ.
تلك واحدة من الانقسامات الحادة والصراعات النفسية التي يعيشها مدرب كرة القدم، إيجاد التوازن بين الحمض النووي الخاص به ومتغيرات البيئة. كم يتطلب الأمر من شجاعة لتلويث الرداء المقدس للأسلوب، والتضحية من أجل الفوز؟
قديماً، وعلى مدار الثلاثة عقود الأولى من تاريخ اللعبة اختلفت الفرق قليلاً في الأسلوب، اختلافات طفيفة قد لا يكشفها ميكروسكوب بدائي الصنع. لعب الجميع بمدافعين وثلاثة في المنتصف مع خمسة مهاجمين. ساد الشعور بالنقاء الأرجاء، وكأن دفع الكرة بدقة لتبقى في مثلثات بين الوسط والهجوم يمثل الروح الطاهرة للطريقة المثالية.
هيربرت تشابمان، حجر عكر صفاء تلك البركة، الأسلوب شيء ثانوي في معادلته، ما يهم هو تحقيق الفوز بأي طريقة. تخلص من هيكل 5-3-2، ومثل ظهور تشكيلة W-M عاصفة تشق سماءً صافية.
سمح النظام لفريقه بالتكتل في مناطقه، وضرب الخصم عبر التحولات السريعة طوال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، عمل بشكل فعال رفقة كل من هدرسفيلد تاون، وأرسنال.
قال: "هناك كرة واحدة فقط ورجل واحد فقط يمكنه ركلها، بينما يصبح اللاعب الآخر متفرجاً. لذا فإن المرء لا يتعامل إلا مع السرعة والحدس والقدرة ونهج اللاعب الذي يملك الكرة". بكلمات أخرى، يذكرنا تصريح تشابمان بما قاله ويليام جيمس: "لا يمكن إثبات فاعلية شيء ما إلا من خلال النتائج، من خلال تجربة مشاهدة فعلية".
قبض تشابمان على جمر الانتقادات، تمسك بأسلوبه واتخذ من النتائج درعاً، مصراً على أنه لا ضرورة "لتغيير نظام فائز". حيث أثبت بما لا يدع مجالاً للشك، على حد تعبيره، أنه "الأكثر ملاءمة لقدرات لاعبينا الفردية". كتب في مجموعة من الأعمال المكتشفة بعد وفاته: "لم يعد من الضروري أن يلعب الفريق جيداً، بل يجب أن يسجلوا. يتم قياس مدى مهارتهم، في الواقع، من خلال موقعهم في جدول الدوري. منذ ثلاثين عاماً خرج الرجال لعرض فنونهم وحرفهم. اليوم عليهم أن يساهموا في النظام".
عبرت أفكار الرجل الإنجليزي المحيط، واستقرت في صدر فيتوريو بوتسو، الذي وجد من مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" تعويذة نجاح تطرح المتحدين أرضاً. الفوز بأي ثمن مثّل شعار المرحلة في إيطاليا. خضعت كرة القدم لتحوّل مُزلزل، ما كان في السابق لعبة الارتجال والإبداع أصبح الآن يخضع لنظام أكثر دقة وصرامة. تزامن ذلك مع صعود فريق سيرفيت رفقة المدرب كارل رابان، فريق شبه محترف يناضل ضد كبار أوروبا، لعب بخط دفاع رباعي، وخماسي الهجوم لعب بشكل أعمق؛ وهو ما أكسبه عدداً إضافياً في خط الوسط. يقال إن جوزيبي فياني استلهم الأسلوب بعد رؤية صياد يستخدم شبكة إضافية لالتقاط الأسماك الهاربة من الشبكة الرئيسية. من إيطاليا، بالتحديد ساليرنيتانا، وميلان، وإنتر عبر تلك البلاد خرج الكاتيناتشو لإيجاد الشبكة الثانوية.
ولاحظ أننا لا نزال عالقين في بؤرة الثلاثينيات، ولم نعبر بوابة القرن الحادي والعشرين. ولأن الفلسفة احتاجت لمقاربات إبداعية، وأفكار مختلفة منذ بارمينيدس، وأناكساجوراس، وفيثاغورس، وأفلاطون، مروراً بفيتغنشتاين، وديكارت، وسارتر، ونيتشه، ودريدا. لكي تزدهر الفلسفة يجب أن تتعارض وجهات النظر، إذا استمرت كرة القدم في حالة التوافق الأولى لكان هناك تنوع أقل بكثير في مباريات اليوم. ولحسن الحظ لم يحدث ذلك.
الصراع التكتيكي في الأرجنتين
أزهرت أرض التانغو نباتين، لكل منها تركيبة مختلفة، تشاركت احتضان الضوء ذاته، واختلفت في الرائحة، وطريقة المداعبة، أبت كل منهما احتضان باقة واحدة، فخرج لنا الانقسام الأيديولوجي بين المدربين الأرجنتينيين سيزار لويس مينوتي وكارلوس بيلاردو في الثمانينيات. الأول، قاد بلاده لتحقيق كأس العالم 1978، كان رومانسياً، ومتحمساً، وليبرالياً من دعاة الحرية والجمال.
في غضون ذلك اعتبر بيلاردو عكس النظرية، القديس في زمن المغريات. قاد الأرجنتين للتتويج بمونديال 1986 ولم يكترث لردود الأفعال على نهجه التدريبي. ظلّ واقعياً وداعماً متعصباً لمكافحة كرة القدم، متمسكاً بجذور فيكتوريا سبينيتو التي وضعها في التربة الأرجنتينية في الستينيات.
قد يشبه الأمر حدّ الصراع الدائم بين الخير والشر، والملائكة والشياطين، الأول كرّس حياته للترفيه كما لو أنه أراد بناء المدينة الكروية الفاضلة، أما الثاني فقرر إفناء ما بقي من عمره لإفساد اللعبة، تبنّي تلك الرؤية كمحاولة تلوين لوحة رمادية باللون الرمادي.
التقى الخطان في نقطة اتصال، حيث قدّم بيلاردو كرة قدم جمالية مبنية على الانتشار الواسع، أهدت المتعة لمن لم يذهب للسيرك. وعلى الجانب الآخر لم يمثل مينوتي راديكالية الفكر، ولم يتردد في تبني البراغماتية إذا لزم الأمر، فبالتأكيد لم يكن منتخب الأرجنتين صاحب اليد المثالية الجميلة حين هزم المنتخب الهولندي -الكرة الشاملة- في نهائي مونديال 78. وُصفت المباراة على نطاق واسع بأنها صراع بين "الجمال والقبح".
في عام 2005، خرجت كلمات ممتزجة بتأوّهات الألم والبكاء من بيلاردو، عندما عبّر عن حزنه بسبب ندرة المواهب وسط الأنظمة الكروية الحديثة: "لا يمكن وصف لاعب واحد، ولا حتى في المنتخب البرازيلي أو المنتخب الإسباني بأنه مبدع حقاً. كرة القدم الحديثة تتعلق بالركض. التقنية هي كلمة أجنبية. في الوقت الحاضر حتى الأطفال في سن 12 عاماً ملزمون بالفوز. في الواقع الاستمتاع باللعب غير جوهري. الاندفاع، والجري، والمصارعة على رأس الأولويات. الإبداع والبراعة هما الآن قبعة قديمة. لسوء الحظ هذه هي الحقيقة".
الطليان يكرهون الإنجليز!
"كرة القدم البرازيلية تدور حول الذوق والارتجال، لكنها تبدو متلهفة للتنظيم الدفاعي للإيطاليين. تدور كرة القدم الإيطالية حول السخرية والذكاء التكتيكي، لكنها تعجب وتتخوف من الشجاعة الجسدية للإنجليز. كرة القدم الإنجليزية هي عبارة عن مثابرة وطاقة، لكن تشعر أنها يجب أن تتقارب مع أسلوب البرازيليين".
عبر هيلينيو هيريرا عن الكُرْهِ الواضح لأسلوب الكرة الإنجليزية في الستينيات، المدرب الإيطالي كان من أشد المبشرين بالكاتيناتشو، نظام حاول بلا رحمة خنق الخصم والفوز بالدفاع في مساحة ضيقة، لكنه لم يعجبه النهج المباشر للفرق الإنجليزية. وقال: "أنت في إنجلترا تلعب بالأسلوب الذي استخدمناه نحن منذ سنوات عديدة، مع قوة بدنية كبيرة، ولكن لا أسلوب ولا مهارة".
ما الذي يحدد البراغماتي في عالم كرة القدم؟ هل هو رفض الانغماس في الإسراف التكتيكي أو الارتجال غير الضروري؟ هل هو رفض ما لم يثبت نجاحه والتركيز فقط على النتيجة النهائية؟ إذا كان الأمر كذلك فهناك عدد قليل من المدربين الذين يمكن اعتبارهم براغماتيين متحمسين بالمعنى الحقيقي للكلمة، لأنها لا تعد فلسفة ملموسة تكتيكياً.
اتخذت الاتجاهات التكتيكية عديد الأسماء، وأثّرت على المدربين بطرق مختلفة. كل مدرب متشبث بأفكاره الخاصة، سواء اعتبروا براغماتيين أم لا، جاء الوصف من المتابعين، ومن النادر أن يشير مدرب لنفسه ويصيح أنا براغماتي. إلا أنه في ديسمبر/كانون الأول 2016، كسر بيب غوارديولا تلك القاعدة غير الملزمة، وقال: "أنا براغماتي، أنظر للماضي، أنا براغماتي للغاية. أنا هنا لأنني فزت. وأريد الفوز، أنا براغماتي". من يمكنه إنكار ذلك بالنظر لأن مانشستر سيتي هُزم مرة وحيدة في ذلك الموسم. بالمقارنة بحقبته رفقة برشلونة لعب السيتيزن كرة أكثر مباشرة وسرعة.
هناك رجل تتفق سمعته وفلسفته مع تعريف البراغماتي المقبول عالمياً، سواء من حيث الفوز بمختلف السبل، أو النهج الدفاعي القبيح، هو جوزيه مورينيو. وعلى الرغم من هذا يظهر على شاكلة الشرير في الأفلام المصرية القديمة. لسبب ما يتكرر تاريخ العالم مرتين كما يرى هيغيل. والأدق في حالتنا عدم نسيان إضافة ماركس؛ يتكرر التاريخ في المرة الأولى كمأساة والثانية كمسخرة. ولأسباب واضحة يمثل مورينيو وغوارديولا صراع كرة القدم الجميلة ضد القبيحة، كما حدث إبان صراع مينوتي وبيلاردو.
في ديسمبر/كانون الأول 2018، فاز مانشستر سيتي 4-1 على توتنهام: كرّر الفريق الاعتماد على كرات طويلة، في محاولة لتجاوز خط الدفاع المتقدم للسبيرز. أنهى السيتيزن المباراة بنسبة استحواذ بلغت 53%، وهو أقل بكثير من المتوسط خلال الموسم. وربما كانت تلك البراغماتية التي تحدّث عنها بيب غوارديولا، الذي أشار في وقت لاحق من ذلك العام نفسه بأن التغيير يطرأ فقط على هوامش ضيقة، وتفاصيل بسيطة، أما الأسلوب العام ككل فينبغي تحسينه.
النطق بالحكم
المنطق هو الرقم الصحيح الذي يمنحه الصفر -البراغماتية- قيمة، 6 أصفار من دون واحد صحيح لن تصنع المليون. وتاريخ كرة القدم مليء بحالات المدربين، الذين اعتبروا مثاليين، تقدموا للمباراة بغرض الفوز فقط. واقعياً تغلب تلك الرغبة على المدربين عند وضع التشكيلة والأسلوب قبل دخول المباراة أكثر من الاهتمام بجمالية الأداء.
يرتكز المنهج العملي على فهم نقاط ضعف الخصم والثغرات التي يمكن استغلالها في منظومة الفريق، وتحليلها لمحاولة تطوير نظام يعالج العيوب ويستغل نقاط الضعف. إذا كان هذا صحيحاً، وفقاً لكلمات تشارلز ساندرز بيرس فكل مدرب براغماتي، إذا سرنا وفق التعريف الصحيح وابتعدنا عن عناوين الصحف، فالنسيا رافا بينيتيز، إنتر مورينيو، زيدان مدريد، بغض النظر عن الطريقة، المهم للناجح هو الفوز.
من الواضح إذن أن كرة القدم البراغماتية لا يجب أن تكون مملة وغير جذابة. ومع ذلك فهي تهيمن على عقل اللعبة، الفوز هو الهدف دائماً. وبنفس الطريقة، إذا كانت كرة القدم للعرض الترفيهي فقط، إذا كانت شاعرية بالكامل، تدور حول أشياء غير ملموسة أكثر من النتيجة فعندئذ سيكون هناك نقص في المنافسة، أو عدم وجود أي معنى للنتيجة.
بالاستبطان والتأمل: الأهم هو الفوز أو الفوز بالمبادئ، التمسك بالمثل العليا أمام أبناء مكيافيلي الأوفياء لمبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وهو تفسير مطروح أيضاً للبراغماتية. السؤال ينطبق بشكل مناسب على كرة القدم والحياة.
وختاماً، لا يوجد مدرب يستطيع الادعاء أنه نسخة مباشرة من وليام جيمس أو ساندرز بيرس. ولكن ليس هناك شك في أن البراغماتية مثل جميع الحركات الفلسفية المؤثرة كان لها تأثير عميق على كرة القدم. عنكبوت اللعبة يتخذ من الفوز مركزاً لقانونه، تبلغه بمختلف الطرق. رتوش ضئيلة أم قلب الإطار بالكامل، إلى أي مدى يستطيع المدرب التخلي عن أفكاره وفلسفته للفوز، سواء إذا كانت تعود لأصول الكرة الشاملة أو الكاتيناتشو.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.