العالم بأسره واقع في قبضة كورونا، إذ تسمّر المواطنون حول العالم في المنازل أمام الشاشات متابعين ما وصل إليه الفيروس، وأيّ بلدٍ آخر سيضاف إلى سلسلة المناطق الموبوءة. تراجعت أخبار السياسة، واتّضَح أن موقع الدولة ودورها السياسي وترسانتها العسكرية لا تفيد في وقف زحف كورونا.
وكما لو أن وظيفة الرؤساء والسياسيين أصبحت إحصاء عدد الضحايا الذي يزداد يوماً وراء يوم، ومواساتهم في ظل هذا الوضع الذي يؤشّر إلى اقتراب قدوم الصيف وارتفاع درجة الحرارة، ما قد يسهم في الحد من انتشار الفيروس وتقليل فاعليته، أقول: "قد" وليس بالتأكيد.
وإن كان الأمر كذلك، فليقتنع الإنسان بأن الخلل الناجم في الطبيعة جرّاء الإسراف في استهلاك الطاقة واستنزاف الموارد لا تصلحه سوى الطبيعة. ها هي المصانع قد توقفت عن العمل وخَفّت حركة السير والملاحة الجوية، والمدن والحواضر الكبيرة قد تتحول في الأيام القادمة إلى مسرح للأشباح ويقبعُ كل فرد في زنزانته. إذاً، تتنفّس الطبيعة الصعداء وتصفو الأجواء، وفوق ذلك فإن الجشع لدى الكائن البشري قد تخفُّ حدّته في لحظة مراجعة الذات والتأمّل وهو يُعاينُ حقيقة عدم جدوى التهافت على الماديات والنفوذ والبَهرجة.
ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالمَ وخسر نفسه؟
ومن هنا يجبُ تفسير هذه الأزمة من مستوى آخر بدلاً من الاستسلام لمتاهة الخوف والتسابق لادّخار السلع، لا خوف يحميك من الوباء ولا تراكم البضائع في المخازن يؤخّر لحظة النهاية. ما يتعلّمهُ الإنسانُ من الفلسفة هو التفكيرُ في الإمكانيات المتاحة لتحويل الأزمة إلى عامل للتحول والانطلاقة نحو مرحلة جديدة وتعمّق الوعي بفَن العيش. ما يعوزهُ المرءُ أكثر من أي شيء آخر في عصرنا هو فن الحياة، لذلك يعاني الاكتئاب والملل ويتفاقمُ شعوره بالضجر والتغرّب عن الواقع فيما اللهاث وراء الربح يستمر، "ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالمَ وخسر نفسه"، وتَفرّغ الدين من قيَمه الروحية أيضاً لدرجة أنه تحوّل إلى غطاء لأغراض سياسية واقتصادية بحتة. وأمام ظاهرة تَشيؤ القيم تتلاشى حميمية الحياة البسيطة، وتتعقد طبيعة الإنسان نتيجة الانسياق وراء الأوهام التي يغذيها النظام الرأسمالي. ومن المناسب هنا الإشارة إلى رأي المخرج البريطاني هيتشكوك الذي يقول إن "ما يوفّره لك المال هو شراء بعض التعاسة فقط".
هل تعيد غزوة كورونا إحياء الضمير الإنساني؟
الوقوع في دوامة الاستهلاك وَفّر مستنقعاً لا تنمو فيه إلا غرائز الانحطاط لدى الإنسان، وكان حصيلة ذلك هو نسيان الوجود على حد تعبير هايديغر: "دعك من الشراسة التي طبعت تصرّفات الإنسان مع بني جنسه فإن الكارثة الحقيقية تتمثّلُ في التحوّلات البيئية". وهذا يعني أن الكائن الذي لا يمتلك راحة النفس يدمّر نفسه ويدمّر بيئته في آنٍ واحد، لذلك فإن ما يختبره الإنسان من العزلة ومشاهدته لتَغيّر السلوكيات اليومية وبعض الأعراف الاجتماعية والدينية قد يكون فرصة لبرمجة نمط العلاقة مع الذات والآخرين. كأن صحوة الضمير لدينا تتطلّبُ مروراً بهذه التجربة ورؤية ما حلّ بالمجتمعات من الخوف إثر غزوة كورونا. إذ أصبح المواطنون أكثر تضامناً مع بعض، والمقيمون في الحجر الصحي بالمدن الموبوءة يملأون الدنيا بالأغاني لأن "الأغاني لِسّه ممكنة"، على حد قول محمد منير. وبهذا يتم اكتشاف سرّ الخفّة من جديد، وكل ما هو حسنٌ خفيف مثلما قال نيتشه عطفاً على ما سبقَ، فإن الحنين يأخذُ المقيمين بالمنازل إلى الأماكن والشوارع التي كانت تبعثُ على الضجر وكان يَشكو منها المارّة من تكرار المظاهر والزحمة. الآن أصبحَ الشارع الذي يقعُ على مسافة ربع ساعة من مكان إقامتك الإجبارية قارة بعيدة، ولا يمكنك أن تمضي فيه قليلاً من الوقت.
هذا يذكرنا بقصّة الشخص الذي كان يمشي بمحاذاة جدران السجن ويتساءل كيف يتخيّلُ من لا يفصلني عنهم غير حائط سميك صورة الشارع وشكل ملامح المارّة؟ هل تَصلهم أصوات الباعة؟ كيف يكون طعم الحياة ولونها إذا غابت عنها هذه التفاصيل العادية والبسيطة؟ ومن جانبه أظهَر ألبير كامو هذا الحنين لدى الإنسان نحو إيقاع الحياة العادية عندما يكون قيد جدران السجن، فإن بطل "الغريب" يُعاود قراءة قصاصة من جريدة قديمة يقعُ عليها النظر صدفة في الزنزانة، إذ يَجد في هذه الورقة تعويذة للحياة.
ثقافة المواجهة
تختلف طريقة مواجهة المرض من مجتمع إلى آخر، ويؤدي مستوى الوعي دوراً مهماً في هذه المعركة، وبينما تحاول المجتمعات المتقدمة تحويل هذه الأزمة إلى طفرة علمية وينهمكُ علماؤها في دراسة طبيعة الفيروس لدحره قبل استفحاله، تنشغلُ العقليات المُثقلة بإرث التخلف بحروب كلامية وبتفسيرات غير علمية، إذ يتم ليُّ عنق الوقائع والظواهر وحالة انتشار الأوبئة لصالح أهداف أيديولوجية، ناهيك عن التشجيع على الخزعبلات والفذلكة والتسابق لاقتناء السلع بدلاً من التعامل المتوازن مع الأزمة. صحيح أن هذا الوباء يشكّلُ تحدياً حياتياً بالنسبة للجميع، لكن مرة أخرى يظهرُ هذا الواقع حجم البؤس والتخلف في البيئات التي لن يكون سلاحها في المعارك الوجودية إلا الانفعال والعقلية الموتورة. إذاً، فإن العامل الثقافي يتّخذُ أهمية كبيرة في المراحل المفصلية، ولا يجوزُ الاقتناع بالأفكار السقيمة التي تحللُ الظاهرة بمنطق التشفّي والانتقام لأن الوباء لا يفرّق بين هذا وذاك، وهو ناقوس الخطر للإنسانية بقطع النظر عن الاختلاف الإثني والحضاري والديني. نعم إن الجشع والتكالب على المصالح والطيش الرأسمالي والاتجار بالدين، كل ذلك قد أدى إلى ظهور الإنسان الأدنى -حسب تعبير الفيلسوف اللبناني علي حرب- بدلاً من الإنسان الأعلى كما كان يحلم به نيتشه. ومن هنا يجبُ إدراك حقيقة وهي أن البشرية عندما تصلُ إلى مفترق الطرق لا ينفعها إلا التضامن والعودة إلى المشترك الإنساني وما يَردمُ الفجوة بين البلدان والتجمعات البشرية. ومن الأفضل التعامل مع الوضع باعتباره فرصة للتصالح مع الحياة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]